image

د. اسعد عبد الرزاق

باحث في الشأن الديني المعاصر / العراق / النجف الاشرف

الأبحاث

التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي من منظور قرآني  ا.م.د أسعد عبد الرزاق الاسدي كلية الفقه جامعة الكوفة  Asaada.al-asadi@uokufa.edu.iq

التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي من منظور قرآني ا.م.د أسعد عبد الرزاق الاسدي كلية الفقه جامعة الكوفة Asaada.al-asadi@uokufa.edu.iq

ملخص الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. أما بعد فإن الاقتصاد يمثل أحد أبرز دعائم النشاط البشري، والذي يحظى بعناية كبرى من التشريعات والقوانين الإلهية والوضعية، وعلى مستوى الدين الإسلامي، لقد تجلى البعد الاقتصادي. في ضمن تعاليم الشرع والقواعد الكلية، فضلا عن القيم العليا للإسلام. إذ ضمنت مصلحة الإنسان في تحديد خياراته الأساسية فيما يتعلق من جانب الاقتصادي. وفي إطار الفهم التفسيري للقرآن الكريم، نجد مجموعة من الآيات القرآنية التي تؤسس إلى حالة التوازن الاقتصادي في الحياة من خلال ترشيد وعي الإنسان إلى إحتياجاته، ومدى استثماره لإمكانياته وفرصه ومحاولة تلبية احتياجاته, اسمه. ويأتي هذا في سياق نظام التمكين الإلهي للإنسان من خلال قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سورة الأعراف: 10 يتجلى التمكين على مستويات مختلفة من ضمنها مستوى الإعمار في الاستعمار في الأرض، ليدرك الإنسان حينها ضرورة أن يوازن بين عناصر الاستهلاك في نشاطه، ومتطلبات الإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي. الذي يضمن المصلحة العامة للمجتمع، فضلا عن ضمان المصالح الفردية الأخرى, (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) الجاثية: 13 , وفي ضمن الاستخلاف وتسخير ما موجود على الأرض لصالح الإنسان، يأتي الاختبار للإنسان في كيفية تطبيقه في مقتضيات الاستخلاف على نحو من الابتلاء، في ضوء سنة الاختلاف والتباين في مستويات البشر وإمكاناتهم، كما في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) الأنعام: 165 ويأتي هذا البحث متناولا إشكالية التوازن ليلا الاستهلاك كنشار بشري والإنتاج كنشاط بشري آخر وفق موازين السنانية ومادية وضعها الله تعالى, لذلك، تتم محاولة الإجابة عن تساؤلات هامة: أين يتجلى التوازن بالفعل الإنساني؟ بين متطلبات الاستهلاك والإنتاج، وكيف توجه القيم القرآنية الإنسان نحو تحقيق ذلك التوازن؟ وهل تتشكل خصائص مميزات الاقتصاد الإسلامي؟ بفضل توجيه تلك القيم الخادمة؟ المقدمة: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. أما بعد، فإن الاقتصاد يمثل أحد أبرز دعائم النشاط البشري، ويحظى بعناية كبرى من التشريعات السماوية والقوانين الوضعية. وفي إطار التعاليم الإسلامية، نجد أن البعد الاقتصادي قد احتل موقعًا بارزًا ضمن منظومة القيم والتشريعات التي تهدف إلى حفظ مصالح الإنسان وتوجيه سلوكه وفق ميزان الحكمة والعدل. تنبع أهمية هذا البحث من صميم الحاجة المعاصرة إلى إعادة فهم العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج بوصفها محورًا رئيسًا في تحقيق الاقتدار الاقتصادي، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، التي تكشف عن خلل في بنية التوازن بين ما يستهلكه الإنسان وما ينتجه، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي. وتكمن مشكلة البحث في التساؤل عن مدى حضور مفهوم التوازن في النشاط الاقتصادي الإنساني، وفي تحديد كيفيات بناء اقتصاد قادر على تحقيق الاكتفاء والازدهار من خلال ضبط سلوك الإنسان الاستهلاكي وتوجيهه نحو الإنتاجية الفاعلة، في ضوء القيم القرآنية. إذ يُطرح التساؤل الآتي: أين يتجلى التوازن في الفعل الإنساني بين متطلبات الاستهلاك والإنتاج؟ وكيف توجه القيم القرآنية هذا الفعل لتحقيق التوازن الاقتصادي المنشود؟ أما أهداف البحث فتتركز في: 1. تحليل المفاهيم المرتبطة بالاستهلاك والإنتاج والاقتدار الاقتصادي في ضوء الرؤية القرآنية. 2. تسليط الضوء على تداعيات الإفراط في الاستهلاك وانعكاسه على أزمة القيم والخلل الاجتماعي. 3. استكشاف عناصر بناء الاقتدار الاقتصادي كما وردت في النصوص القرآنية، وبيان دورها في تعزيز التنمية المتوازنة. 4. الإسهام في تقديم قراءة معرفية قرآنية قادرة على رفد الفكر الاقتصادي بمنظور قيمي وإنساني متكامل. ومن هذا المنطلق، يسعى هذا البحث إلى الجمع بين التحليل المفاهيمي والقراءة القيمية للقرآن الكريم، للوقوف على طبيعة التوازن الذي يدعو إليه الإسلام بين الاستهلاك والإنتاج، بوصفه مدخلًا أساسًا لبناء مجتمع مقتدر اقتصادياً، قائم على العدالة والكفاية والفاعلية. المطلب الأول: المدخل النظري للبحث: لابد من تحديد المفاهيم المركزية للبحث من خلال الفروع الآتية: الفرع الأول: مفهوم التوازن: ليس من اليسير تعريف بعض المفاهيم التي تكتسب وضوحا كافيا, وربما البيان في حدود التوظيف لها في مجال محدد, لذا يمكن ايضاح التوازن في مستويات ثلاث: أولا : التوازن في الكون والطبيعة نجد في آيات متعددة تصويرًا بديعًا لتوازن الخلق، بما يشمل الأرض، والسماء، والموارد، والزمن، حيث لا خلل ولا عبث ولا فوضى، بل كل شيء موزون ومقدّر بقدر معلوم , كما في قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) وقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) , وقوله تعالى: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) هذه الآيات تشير إلى أن الخلق قائم على ميزان دقيق، ما ينعكس في انتظام الفصول، ودورات المياه، وتكامل الغذاء، وتوزيع الموارد. وقد أكد المفسرون أن "الميزان" هنا يعني العدالة، التوازن، والاعتدال في كل مناحي الحياة، وهو ما ينسحب على العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، بين الطلب والعرض، وبين الإنفاق والإدخار . ان التوازن في نظام الخلق, جلي ومحل نظر وبحث من قبل علماء الطبيعة, وهذا التقدير في الخلق يعبر عن مستوى من التوازن الطبيعي الذي يرتهن بقاءه بتوازن فعل الانسان, والانسان اليوم من خلال تجاوزه لكثير من موازين الاستهلاك نجده يهدد ذلك التوازن الطبيعي, وأزمة المناخ خير مثال على ذلك. ثانيًا: التوازن في مقام النفس الإنسان مخلوق مركب من الروح والجسد، والعقل والعاطفة، والرغبة والضمير، وقد شرّع الله له ما يحفظ هذا التوازن الداخلي، حتى لا يطغى جانب على آخر ومن الآيات الدالة: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) أي سوّاها تَسويةً متوازنة بين مختلف عناصرها, وقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) , توجيه لتوازن بين الدنيا والآخرة، والزهد والاستمتاع المشروع. لقد أودع الله تعالى كثيرا من الثنائيات المتنافية والمتضادة في داخل النفس البشرية, والتي تعد جزءا من الاختبار الالهي للإنسان, إذ ينشأ الصراع داخل الإنسان أولا ومن ثم يشهده في خارج كيانه ووجوده. ثالثًا: التوازن في مقام المجتمع وحاجاته حثَّ القرآن الكريم على إقامة العدل الاقتصادي والاجتماعي، وهو مظهر من مظاهر التوازن في توزيع الثروات، وتحقيق الكفاية، وكبح الجشع، وضمان الاستقرار الاجتماعي. مثال من قصة شعيب عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) , يربط بين اختلال التوازن في البيع والشراء وظهور الفساد في الأرض. (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) , إشارة إلى وجوب منع احتكار الثروة وتكريس العدالة التوزيعية, والتنمية المتوازنة بين الحكومة والشعب؛ وتصريح الإمام علي (عليه السلام) الآتي، يجسّد أروع وأدق وأفضل تعبير عنه، إذ يقول (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ: فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى إِلَيْهَا الْوَالِي كَذَلِكَ، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، فَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطَابَ بِهِ الْعَيْشُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ, وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ، بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ، بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلَا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ، بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ‏) . ونصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أن المسيرة الإصلاحية التنموية لابد لها من أن تتحرك باتجاهين وبشكل متزامن: فمن جهة تتجه نحو الولاة والحكام والرعاة، ومن جهة تتجه نحو المحكومين والناس والرعية، كما أن نصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أنه إنما تقوم مناهج الدين وتعتدل معالم العدل وتتحقق بعدها مراتب الإحسان والفضل ويربح الولاةُ والناسُ الدنيا والآخرةَ معاً بصلاح ذلك الزمان، ويطيب العيش، وتستقرّ الدولة وتزدهر، فيما (إِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا), وبعير هذا بنحو جلي عن التوازن بين السلطة والمجتمع بحسب مقتضيات الحاجات والمصالح العامة. رابعًا: التوازن في الموارد والإنتاج والاستهلاك وهو ما يظهر في آيات تدعو إلى الاعتدال، وترشيد الاستهلاك، وربط النعمة بالمسؤولية: كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) , وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) , الاستهلاك حق، لكن بحدود الحق والتوازن، لا الإفساد والإهدار, والتوازن في القرآن الكريم ليس مجرد وصف طبيعي، بل نموذج قيمي ومنهجي للحياة، يشمل كل المجالات: النفس، الكون، المجتمع، الاقتصاد، السلوك. وكلما اختل هذا التوازن، اختلّ معه الأمن والاستقرار والكرامة الإنسانية، ولذلك فإن الرؤية القرآنية للتوازن تمثل أساسًا لبناء أمة مقتدرة وعادلة. الفرع الثاني: مفهوم الاستهلاك والإنتاج في القرآن الكريم - من خلال الاسترشاد بالآيات في هذا المجال، مع الكشف على العلاقة التكاملية بين مفهومي الإنتاج والاستهلاك في الرؤية القرآنية.، وأهمية التوازن بين الاستهلاك والإنتاج في الحياة الاقتصادية للأمة، والمخاطر أو السلبيات التي يمكن أن تنجم عن أي خلل بينهما. يعرف الاقتصاديون المعاصرون الإنتاج بمفهوم شامل بأنه "خلق المنفعة أو زيادتها" والتعريف بهذه الصياغة غير مقبول إسلاميا ولا يتفق مع حقيقة العملية الإنتاجية، ذلك أن للخلق في اللغة معنيان( ) أمر اللَّه عباده باعمار الأرض في قوله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}( ) ويقول المفسرون في معنى ذلك أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والابنية( ). الفرع الثالث: مفهوم الاقتدار الاقتصادي في الفكر الإسلامي: هو قدرة الأمة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتأمين الاحتياجات الأساسية لأفرادها، وبناء قوة اقتصادية إنتاجية تجعلها مستقلة في قرارها السياسي، وفاعلة في العلاقات الدولية, الاقتدار الاقتصادي في الفكر الإسلامي ليس مجرد هدف مادي أو رفاه اجتماعي، بل هو ركيزة من ركائز تحقيق العزة والكرامة والاستقلال للأمة، ووسيلة لتمكينها من أداء دورها الرسالي في العالم. الاقتدار الاقتصادي يشير إلى القدرة التي تملكها الدولة أو المؤسسة أو الفرد على إدارة الموارد الاقتصادية المتاحة بفعالية لتحقيق أهداف معينة، مثل النمو، والاكتفاء الذاتي، والتأثير في العلاقات الاقتصادية الدولية. (الاقتدار الاقتصادي هو القدرة على إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات بكفاءة، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتوظيف الموارد لتحقيق التفوق أو التوازن الاستراتيجي) , ويعرفه آخر: (الاقتدار الاقتصادي أحد أبعاد القوة الشاملة للدولة، ويشكل قاعدة للقوة السياسية والعسكرية والدبلوماسية) , وفي الاقتصاد الإسلامي، يُفهم الاقتدار الاقتصادي على أنه القدرة على تحقيق الكفاية والعدالة في توزيع الموارد وفقًا لمبادئ الشريعة، مع مراعاة الاستقلال الاقتصادي عن التبعية لغير المسلمين، وتوجيه المال لتحقيق مقاصد الشريعة. (الاقتدار الاقتصادي في الإسلام لا يُقاس فقط بمستوى الدخل القومي، بل بمدى تحقيق الكفاية والكرامة لكل فرد، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة، وعدم الوقوع في التبعية الاقتصادية) . المطلب الثاني: التداعيات الراهنة للاستهلاك هناك جملة من التداعيات والآثار لما آلت إليه مظاهر الاستهلاك في المجتمعات المعاصرة, ويمكن تغطية هذا الجانب من خلال: الفرع الاول: الآثار المعنوية لظواهر الاستهلاك: عند التأمل في انعكاسات النزعة الاستهلاكية على المنظومة القيمية والثقافية، يتبين أنها تُحدث تحولات عميقة في البنية الثقافية للمجتمع, من أبرز هذه التحولات تسليع الهوية الثقافية، إذ تُفرغ القيم الموروثة من مضامينها الأصيلة، وتُحوّل إلى مجرد منتجات قابلة للاستهلاك أو إلى عناصر شكلية تُستخدم لتزيين نمط حياة عصري لا يمت بصلة لروحها الأصلية, وبهذا يتم فصل هذه القيم والموروثات عن جذورها الثقافية العميقة، وتفقد دورها الحيوي في تشكيل وعي الفرد وهويته ضمن الإطار الجمعي للمجتمع. ولا يقف التأثير عند هذا الحد، بل يمتد إلى بنية العلاقات الاجتماعية ذاتها, إذ تسهم النزعة الاستهلاكية في ترسيخ قيم الفردانية والانغلاق داخل الذات، مما يُضعف الروابط الاجتماعية ومفاهيم التضامن والتكافل بين الأفراد, كما تظهر آثار هذه النزعة في ترجيح كفة التنافس المادي بين الناس، حيث يُقاس النجاح والتفوق بمقدار ما يملكه الفرد من سلع ومقتنيات، لا بما يسهم به من قيم وعطاء مجتمعي, وهكذا تتحول قيمة الإنسان من جوهره الإنساني وإسهاماته الحضارية إلى مجرد انعكاس لما يستهلكه، ما يؤدي إلى خلل عميق في العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويهدد بنية التماسك الاجتماعي. الفرع الثاني: الندرة النسبية (Relative Scarcity): هناك ما يعرف في الاقتصاد بالمشكلة الاقتصادية، والتي تتمثل فيما يعرف بالندرة النسبية, والتي تعني ندرة الموارد الاقتصادية المتاحة بالنسبة للحاجات والرغبات الإنسانية . هي حالة تكون فيها الموارد الاقتصادية محدودة مقارنة بالحاجات والرغبات الإنسانية غير المحدودة، أي أن المورد نادر لأنه لا يكفي لتلبية كل الاستخدامات الممكنة له، حتى وإن كان متوفراً في الطبيعة بكثرة. الندرة في علم الاقتصاد لا تعني الندرة المطلقة، بل الندرة النسبية، أي أن الموارد تكون نادرة بالنسبة للحاجات، وليست نادرة من حيث وجودها الفعلي فقط. موقف الباحثين في الاقتصاد الإسلامي حول هذه القضية .. فهناك من رفض قبول فرضية الندرة النسبية استنادا إلى بعض النصوص القرآنية، ورأوا أن في تقريرها مخالفة للاعتقاد الصحيح بأن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بالرزق وأوحد في الأرض كل ما يحتاجه البشر. فمن النصوص قول الله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان الظلوم كفار ) ، وقوله تعالى : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ... ) ، وقوله تعالى : ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) وقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها .... ) . فهذه النصوص القرآنية وغيرها تبين أن الله تعالى قد تكفل بالرزق وقدر في الأرض أقوالها تقديرا يغطي حاجات الإنسان بل يفيض عن حاجاته. وهناك من الباحثين من يقرر أن فرضية الندرة النسبية لا تتنافى مع تلك النصوص الشرعية ولا تتعارض مع المعتقدات الإسلامية ، من خلال وصف ملائم يقبله العقل الواقع الحياة الاقتصادية مستدلا ما يلي : 1- أن دلالة الآيات التي يستشهد بها من يرفض المشكلة الاقتصادية ليست دلالة قطعية ، كما أن في القرآن الكريم من النصوص ما يشير إلى انصاف هذا العالم بالندرة في الموارد وأن الموارد ليست متاحة لبني البشر بالطبيعة ، مسئل قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) ، وقوله تعالى: ( ولو بسط الله الرزق العباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ) , أن هناك من الأوامر الشرعية والآداب الإسلامية ما يعضد قبول فرضية الندرة النسبية، فالحث على الاقتصاد في الموارد والنهي عن الإسراف والتبذير يدل على إقرار محدودية الموارد إذ لو كانت الموارد غير محدودة لما برزت الحاجة إلى مثل هذا السلوك. 2- مفهوم البركة في الإسلام يؤكد محدودية الموراد وندرتها اليه، فالبركة ليست سنة كونية موجودة بل هي منحة ربانية ونعمة إلهية يمن الله بها على من يشاء من عباده فيجعل القليل كثيرا، ولو كانت الموارد وافرة کثيرة بشكل يعطي حاجات البشر جميعا لم يكن في البركة معنى المنحة الربانية التي اختص الله بها بعض عباده. 3- الواقع والحس يؤيدان محدودية الموارد الاقتصادية فعلى مستوى الفرد أو المجتمع في الغالب لا يوجد من تتوافر له كل الموارد اللازمة لتلبية جميع ما يحتاجه الناس. الفرع الثالث: القيم التي توجه سلوك الاستهلاك: الاستهلاك ضرورة حياتية، لكنه في المنظور القرآني يخضع لضوابط قيمية تقيه من الانزلاق نحو الإفراط أو التحلل الأخلاقي, ومن هذه الضوابط: 1- الاعتدال والتوازن, كما في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) , والإسراف مرفوض لأنه يؤدي إلى إضعاف القوة الاقتصادية للأفراد والمجتمعات, وقد أشار المفسرون إلى أن الآية تدعو إلى الاقتصاد في المعيشة دون تقتير أو تبذير , في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير، ولكن عند التأمل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبين أن الإسراف هو الخروج عن حد الاعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئا، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أن ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أننا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف، وهي تمثل خروجنا عن حد الاعتدال، ولكن من دون أن نخسر شيئا . 2- رفض التبذير والترف, كما في قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرًا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) , التبذير لا يُعد خللاً مالياً فحسب، بل انحرافًا أخلاقيًا، إذ قرن المبذرين بالشياطين، تعبيرًا عن فساد سلوكهم, في تفسير (الإسراف) و(الإقتار) كنقطتين متقابلتين، للمفسرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أن (الإسراف) هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و (الإقتار) هو أن ينفق أقل من الواجب . 3- الربط بين النعمة والشكر, كما في قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) , فالاستهلاك في الإسلام ليس فعلًا ماديًا خالصًا، بل فعلٌ تعبدي يرتبط بالشكر والاعتراف بالمنعم, فالإسلام لا يضبط اتجاه الاستهلاك نحو الطيبات فقط، إنما يضبط درجته أيضاً؛ فالإنسان مأمور بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمّن كامل طاقته ومنهي عن الإسراف وتجاوز الحد الذي يستلزمه ذلك، قال تعالى: "وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف: ٣١)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل والبس واشرب وتصدق في غير سرف ولا مخيلة".ويأتي توجيه السلوك الإنفاقي متسقاً مع هذا التوجه ومؤكداً وسطية الاستهلاك، قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) ، والشواهد في هذا السياق كثيرة. والأحكام الواردة في هذا الصدد تحصّن المجتمع المسلم من أنماط الاستهلاك غير الرشيدة فلا ترف ولا تبذير، وبالمقابل لا بخل ولا تقتير، فكلا الأمرين جنوح لا يتسق مع الفطرة ولا مع الشرع . الملفت للانتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمرا مسلما لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعا، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم. المطلب الثالث: عناصر الاقتدار الاقتصادي في ضوء القيم والمبادئ العليا في هذا المطلب تتم محاولة استجلاء القيم العليا من خلال القرأن الكريم والتي من شأنها أن تحدد طبيعة الاقتدار الاقتصادي للمجتمعات, وذلك من خلال الفروع: الفرع الاول: عناصر الاقتدار الاقتصادي: مفهوم الاقتدار في الرؤية الإسلامية ينظر له كأداة لتحقيق العدل الاجتماعي عبر توزيع عادل للثروات, وحماية الكرامة الإنسانية من الفقر والاستغلال, وتحقيق الكفاية ثم الفضل: كما جاء في الحديث: (من أصبح منكم آمناً في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا), وهذا ما يتوافق مع مفهوم الأمن الاقتصادي, وأسس التنمية المستدامة. وعناصر الاقتدار الاقتصادي وفق الرؤية القرآنية هي: أولا: التمكين: في قوله تعالى : " ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون " التمكين في الأرض هو الاسكان والايطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض ، ويمكن أن يكون من التمكين بمعنى الاقدار والتسليط ، ويؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم وإبليس وقد بدئت الآيات فيها بقوله : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) ، وهو التسليط والتسخير , غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله : " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " كان المعنى الأول هو الأنسب وقوله : " ولقد مكناكم في الأرض " ( الخ ) كالاجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة, والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها، والآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلط والاستيلاء عليها، وجعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، ولذلك ختم الكلام بقوله : " قليلا ما تشكرون " ثانيا: الخلافة والاستخلاف: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) , يُنظر إلى الإنسان، في الرؤية الإسلامية، على أنه خليفة لله تعالى في الأرض، قد أُنيطت به مهمة العمارة والاستثمار في إطار تكليف إلهي مباشر، قائم على ما وهبه الله من سلطة وقدرة على تسخير الموارد الطبيعية وتوظيفها بما يحقق حاجاته ويحفظ وجوده. وقد قرر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) . وجوهر هذا الاستخلاف يتمثل في تفويض إلهي يتيح للإنسان حرية التصرف ضمن حدود التشريع الإلهي، ليتمكن من الاستمتاع بنعم الحياة، ويستوفي مقومات معيشته. وهذا المفهوم يتكرر في نصوص متعددة، تتضافر لتؤكد أن يد الإنسان مبسوطة على الوجود، وأن له سلطة شرعية في التعامل مع العالم المادي. وقد أشار ابن خلدون إلى هذا المعنى في مقدمته، مبينًا أن الاستخلاف يُضفي على الإنسان صفة الفاعلية الحضارية. وانطلاقًا من هذا التفويض، جاء التكليف الإلهي بعمارة الأرض، كما في قوله تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) , وقوله سبحانه: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) , ويقتضي هذا الاستخلاف من الإنسان أن يتولى إدارة الموارد وتنظيم الإنتاج والاستهلاك وفق ضوابط المنهج الإلهي، الذي يتجلى في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وهو مذهب يحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والثروة، كما يرسخ أبعاد العلاقة بين الفرد والمجتمع، ضمن الإطار المقدس للعلاقة الاستخلافية التي تربط الإنسان بالله عز وجل. ومن هنا، فإن مفهوم الخلافة الإنسانية الذي قرره القرآن الكريم يشكل أساسًا محوريًا للنظرية الاقتصادية الإسلامية، حيث يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمال والسلطة بما يضمن التوازن بين الامتلاك والمسؤولية. وقد أكد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) ، في إشارة واضحة إلى أن التفاوت في الملكيات والقدرات هو جزء من سنة الابتلاء والاختبار، وليس منطلقًا للتمييز أو الاستعلاء، بل دافعٌ لتحمل المسؤولية وتحقيق العدالة. الفرع الثاني: القيم التي تحكم الانتاج في الاقتصاد الاسلامي: الإنتاج ليس هدفًا ماديًا في ذاته، بل هو ترجمة لمبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض, يقول الشهيد الصدر: “إن الاقتصاد الإسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية الأخرى في ضرورة الاهتمام بالإنتاج، وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه، وتمكين الإنسان الخليفة على الأرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، ولكن الإسلام حينما يطرح تنمية الإنتاج كقضية يجب السعي اجتماعياً لتحقيقها، يضعها ضمن إطارها الحضاري الإنساني، ووفقاً للأهداف العامة لخلافة الإنسان على الأرض. ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافاً كبيراً. فالنظام الرأسمالي يعتبر تنمية الإنتاج هدفاً بذاتها، بينما الإسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لإيجاد الرخاء والرفاه، وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس، وشرطاً من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الأرض وأهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد” . أن عملية الإنتاج هى محصلة لتفاعل القوى البشرية في التعامل مع الموارد من خلال الجهد الإنساني الفعال الذي تحكمه مجموعة من القيم لتضبط حركته وتنظمها، وبالتالي فإنه يلزم لممارسة العملية الإنتاجية أربعة عناصر هى: 1- الموارد: وتمثل ما خلقه اللَّه عز وجل للإنسان على وجه الأرض. 2- القدرة البشرية: وتتمثل في الامكانات العقلية والبدنية التى أودعها اللَّه للإنسان. 3- الجهد البشري: ويتمثل في تعامل القدرة البشرية مع الموارد. 4- القيم: وتتمثل في مجموعة الضوابط التى تنظم القدرة البشرية في تعاملها مع الموارد. والعناصر الثلاثة الأخيرة يجمعها عنصر العمل والذي يعتبر العنصر الأهم في العملية الإنتاجية ومن أبرز القيم التي تنظم فعل الإنتاج: 1. العمل والعمارة: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) . الاستعمار هنا بمعنى "الطلب من الإنسان أن يعمر الأرض"؛ فالإنتاج جزء من مهمة الإنسان الوجودية . قال الإمام على (عليه السلام): «ما عمرت البلاد يمثل العدل " , ، وتمنحنا الرواية قانوناً اقتصادياً - حقوقياً بامتياز، إذ اضطلعت بعقد الصلة بين ظاهرتين إحداهما اقتصادية، والأخرى حقوقية - اجتماعية سياسية ، وهي قاعدة علمية نظراً لأن الإطلاق ينصرف إلى أكمل الأفراد، على رأي المحقق العراقي وبعض آخر؛ لأنه نال على صرف الطبيعة غير المشوبة التي لا تكون إلا في الأكمل، أو يقال : إن المطلق يعمه، أي أكمل الأفراد، وغيره، فهو على درجات والإطلاق يشملها جميعاً، فتكون حياة الأرض بحسب درجات العدل، ويكون موتها بحسب دركات الظلم والجور. 2. الإتقان والإحسان, (صنع الله الذي أتقن كل شيء) , وقد ورد في الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" (رواه البيهقي), إن الاقتداء بصفات الله تعالى من المفاهيم التربوية والأخلاقية العميقة في الفكر الإسلامي، ويُعدّ من الأسس التي يبني المسلم بها شخصيته الإيمانية، ومن الوسائل التي تُرقي سلوكه في مراتب الكمال الإنساني. 3. العدالة ومنع تركّز الثروة, كما أكده قوله تعالى: (كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم) . فالقرآن يؤكد على إعادة توزيع الثروة بما يضمن التوازن المجتمعي ويمنع الاحتكار والهيمنة الاقتصادية. الفرع الثالث: التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي إن العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج علاقة جدلية، ولا يمكن للاقتصاد أن يزدهر أو يستقل إذا اختل أحد الطرفين. ومن منظور قرآني، تتحقق القدرة الاقتصادية للأمة عبر: 1. ترشيد الاستهلاك الابتعاد عن ثقافة الاستهلاك الزائد التي تستنزف الموارد وتدمر الإنتاج المحلي. 2. دعم الإنتاج الوطني وتحقيق الكفاية الذاتية, وله (عليه السلام) في أول العهد : استصلاح أهلها وعمارة بلادها، فإن عمارة بلادها، يزيد من الطاقة الإنتاجية، و«استصلاح أهلها، يكون بزيادة نسبة التشغيل وبزيادة الطلب الكلي، والطلب الكلي هو الذي طرحه كينز باعتبار كون الاستثمار أكبر محفز له، لكنه أهمل دوره باعتباره مما يزيد من الطاقة الإنتاجية، وعبارة الإمام (عليه السلام) السابقة بجزئيها تشمل ذلك كله كما ظهر، فيشمل كلامه (عليه السلام) الأمدين القصير والطويل ، عكس كينز الذي قصر نظره وتحليله على الفترة القصيرة فأهمل الطاقة الإنتاجية. وبعبارة أخرى : إن قوله : «استصلاح أهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا، يستبطن تحفيز الطلب الإجمالي على السلع والخدمات في حالات الركود الاقتصادي والاستهلاك الخاص المنخفض أو الاستثمار المنخفض، وذلك بما يزيد في الإنفاق العام الذي يكون بمقدور الحكومة التأثير عليه عبر السياسة المالية التوسعية التي بها يتم استصلاح أهْلِهَا، عبر زيادة نسبة التشغيل وخفض البطالة إثر زيادة الطلب كما يتم بها عِمَارَةَ بِلَادِها، عبر زيادة الاستثمار في البنية التحتية والزراعة وغيرها. القرآن يدعو إلى العمل والإنتاج المحلي المقرون بالإتقان والنية الصالحة، وهذا يتطلب سياسات تعليمية وتشريعية تدعم ذلك. 3. ربط الاقتصاد بالقيم الأخلاقية لا يمكن فصل الاقتصاد عن منظومة القيم. فكل إنتاج أو استهلاك لا يخضع للضوابط الأخلاقية هو مشروع فشل طويل الأمد، حتى وإن نجح مؤقتًا. وهذا ما يميز النموذج القرآني عن النماذج الرأسمالية أو المادية. يُقدم القرآن الكريم تصورًا فريدًا لبناء القوة الاقتصادية، يقوم على تحقيق التوازن بين الاستهلاك والإنتاج، ضمن إطار قيمي يعزز من العدالة، والكفاية، والاستقلال, ويكمن التحدي المعاصر في تحويل هذا التصور القيمي إلى نماذج وسياسات عملية تُفعّل في حياتنا الاقتصادية والتعليمية، بما يضمن للأمة اقتدارها وحريتها. مسئولية الدولة: أن دور الدولة في عملية الإنتاج أمر استراتيجي وهام لما تملكه من امكانيات كبيرة وقدرة على التأثير في النشاط الاقتصادي القومي ومسئولية الدولة تتحدد هنا اجمالا في الآتي: 1- القيام بتوفير القواعد الأساسية من المرافق العامة اللازمة لعملية الإنتاج وذلك واجب أساسي ركز عليه المفكرون المسلمون مثل ما جاء في كتاب الإمام على بن أبى طالب إلى عامله على مصر الأشتر النخعي "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لايدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا"( ). 2- تشجيع الانتاج : فقد دعا القرآن الكريم إلى الانتاج حيث جاء فيه التأكيد على السعي، وأن الإنسان سيرى نتيجة سعيه. وعلى مسار القرآن الكريم جاء تأكيد قادة الإسلام على الانتاج وأهميته، فهذا أمير المؤمنين يدعو المسلمين كافة إلى العمل والانتاج. لا يدرك الحق إلا بالجده ويقول أيضاً : والحرفة مع العفة، خير من الغنى مع الفجور ويقول أيضاً : لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان . ولا يكتفي الإمام بدعوة المسلمين، بل يدعو ولاته إلى انتهاج هذا الطريق، فيقول لواليه على مصر مالك الأشتر : وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج) فالأولوية يجب أن تُعطى للانتاج، وعلى الدولة الإسلامية أن تؤمن مواردها من الانتاج قبل الضرائب التي تضعها على المنتجين لأنه من طلب الخراج بغير عمارة خرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً. مسئولية الأفراد عن الإنتاج: أن مسئولية الأفراد الذين يسر اللَّه لهم سبل امتلاك الموارد والقدرة البشرية (المال والعمل) عن الإنتاج مسئولية دينية لما سبق قوله من أن الواجب على المسلمين إعمار الأرض ومن أن العمل المنتج في طلب الحلال يعتبر عباده للَّه عز وجل ولأن المال في يد الأفراد أمانة لأن اللَّه هو المالك الحقيقي له ومن واجب الأمين أو المستخلف أن يعمل وفق إرادة المالك الأصلي والمالك الأصلي أمرنا باعمار الأرض، وإذا كان الفلاسفة يقولون أنه يلزم أن تقترن المسئولية بالمحاسبة على أدائها فها هو الرسول  يؤكد أن الإنسان يسأل عما منحه اللَّه من موارد وقدرة بشرية في قوله الجامع "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين أكتسبه وفيما انفقه؟ وعن عمله ماذا عمل فيه؟( ) خاتمة: المصادر والمراجع: • أبو يوسف, بو يوسف يعقوب. الخراج, المطبعة السلفية, القاهرة, 1346 [1927] • ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير, الدار التونسية للنشر, 2007. • ابن منظور, محمد بن مكرم, لسان العرب, دار المعارف, القاهرة , 1919. • الشريف الرضي، محمد الحسين, نهج البلاغة, ط مؤسسة الرافد, 2010 • السبهاني، عبد الجبار. الاقتصاد الإسلامي: الاستهلاك. موقع شخصي. • الصدر، محمد باقر. الإسلام يقود الحياة, وزارة الارشاد, ط2, طهران, • الطباطبائي، السيد محمد حسين, الميرزان في تفسير القرآن, طبعة اسماعليان. • الطبري, محمد بن جرير بن يزيد. جامع البيان في تأويل آي القرآن, ط1, الرسالة , 1994 • الغزالي، عبد الحميد. الاقتصاد الإسلامي: مبادئه، أهدافه، أدواته, الناشر: البنك الإسلامي للتنمية / المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة, سنة النشر: 1994 • القرطبي, أبو عبد الله محمد بن أحمد, الجامع لأحكام القرآن, مؤسسة الرسالة, ط1, 2006. • كينيدي، بول. صعود وسقوط القوى العظمى, الاهلية للنشر والتوزيع, ط3, 2007 • اللحياني، سعد بن حمدان. مبادئ الاقتصاد الإسلامي, موقع جامعة أم القرى, • الماوردي, أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري, الأحكام السلطانية. مطبعة مصطفى الحلبي، 1973. • المرتضى الشيرازي. التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي (ع)., موقع مؤسسة التقى الثقافية. • المنذري, عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد، زكي الدين,الترغيب والترهيب من الحديث الشريف, ط1, دار الكتب العلمية, بيروت • الموسوي، محسن باقر. الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة, ط1, دار الهادي, 2002 • مكارم الشيرازي، ناصر. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل, مؤسسة الاعلمي للمطبوعات. • محمد عبد الحليم عمر. المنهج الإسلامي في الإنتاج. منشور على الويب. • محمد الريشهري. ميزان الحكمة, مكتب الاعلام الاسلامي, قم, 1362هـ • محمد دويدار, مبادئ الاقتصاد, دار المعرفة الجامعية, الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية ، 1996. • ناي، جوزيف. القوة الناعمة: الوسيلة لتحقيق النجاح في السياسة العالمية, ط1, السعودية, 2004.

فلسفة العلم والمنهج في العلوم الشرعية مقاربة تأسيسية  د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

فلسفة العلم والمنهج في العلوم الشرعية مقاربة تأسيسية د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

مقدمة : يعد حقل فلسفة العلم ضمن مجال الفلسفة في شقها الأبستمولوجي غالبا، والذي يهتم بطبيعة العلوم وخصائصها النظرية عبر رؤية مكثفة من خارج العلم تتناول تاريخ العلم ومصادر معرفته وطبيعة نظرياته وخصائص اصطلاحاته وطبيعة البناءات المنهجية التي تحكمه.. والعلوم الانسانية لم تحظى منذ البدء بفلسفة تبحث في بنيتها, بل تأثرت بفلسفة العلم في العلوم الطبيعية، اذ كانت فلسفة العلم تعنى بالعلوم الطبيعية، ومن ثم وبعد ظهور العلوم الانسانية، تأثرت الأخيرة بفلسفة العلم، وقد واجهت فلسفة العلوم الانسانية بعض الصعوبات، بسبب كونها تدرس ظواهر متفردة وخفية، بمعنى ان موضوعات العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا من الموضوعات غير المشاهدة بالحس، ولا تخضع إلى الإحاطة المختبرية, وانما موصوفة من خلال الملاحظة المجملة لسلوك الفرد والجماعة، مما يتعسر الوقوف على الظاهرة كما يقف العلم التجريبي على الظاهرة في المختبر، ومن ناحية أخرى تمتاز موضوعات العلوم الانسانية بالتعقيد، لكونها متداخلة، ومتغيرة، وفق الاطار الزمكاني، حتى علوم اللغة منها، عصية على مناهج العلم التجريبي، اذن ثمة تأثر وتفاعل بين العلوم الانسانية وفلسفة العلم من جهة، وثمة تعقيد وابهام في اصل تكون فلسفة العلوم الانسانية، لأننا تارة ندرس علم الطبيعة أو علم الانسان، او علم الفيزياء، او علم الاجتماع..، وتارة أخرى ندرس علم العلم، وهو مساحة للتفكير من خارج العلم، وفي مناهج العلم وظواهره ومشكلاته العامة، والأهم من ذلك التفكير في قيمته.. وقد تطورت فلسفة العلم من الوصف الى النقد من خلال تحول تعريفات فلسفة العلم وتطور مفهومها، فبعد أن كانت فلسفة العلم تنحو منحى وصفيا, فقد أصبحت تمارس النقد والتحليل, وهو ما يفضي إلى أن تكون مؤثرة في تطور العلوم وتصحيح بعض مساراتها. مشكلة البحث: من الاسباب التي يُعزى إليها تطور العلوم الطبيعية والانسانية في عموم المعرفة البشرية، هو التقدم في مجال فلسفة العلم والمنهج، ومع قدم المعارف الاسلامية وجذورها الممتدة الى ما يزيد على العشرة قرون، فإنها متأخرة في مجال فلسفة العلم والمنهج، بنحو أثر في تطورها وتقدمها، وكثير من الاشكاليات المعرفية في العلوم الشرعية كان لها سبيل الى الحل والتبدد لولا العزوف عن ترتيب وتنظيم معارفنا، فمثلا قد أخذ التخصص مأخذه من الأذهان، حتى أصبح المتخصص بالتفسير لا يمكنه اقتحام تخصص الفقه وأصوله مثلا، وهو ما أصاب المنظومة المعرفية بحالة من الشلل والجمود. تساؤلات البحث: من ابرز تساؤلات البحث: كيف تؤثر فلسفة العلم والمنهج في تطور علوم الشريعة الاسلامية؟ وهل تكفي محاكاة العلوم الانسانية في فلسفتها ومنهجها، أم ينبغي اكتشاف بعض الخصوصيات المعرفية في العلوم الشرعية؟ الى أي مدى يمكن الجمع بين فلسفة العلم والمنهج في مجال واحد؟ كيف يمكن المقاربة مع بعض مسائل المنهج في اطار أصول الفقه وغيره من علوم الشريعة؟ هل يمكن تحليل عناصر العلوم الشرعية وفرزها بحيث تشكل خارطة ذهنية تساعد على الفهم الكلي للعلوم الشرعية. هدف البحث: يهدف البحث الى عقد مقاربة تأسيسية لمجال يجمع فلسفة العلم والمنهج على حد سواء، كما يجمع العلوم الشرعية في إطار منهجي متكامل، يعين المتخصصين في العلوم الشرعية المتفرقة الى مرونة التواصل العلمي فيما بينهم، فضلا عن تنظيم أفكار الجماعة العلمية داخل منظومة العلوم الشرعية. طبيعة الدراسات السابقة: ان جل الدراسات السابقة كانت على انحاء: 1- دراسات متخصصة في مجال دون مجال, مثل فلسفة الفقه, أو فلسفة أصول الفقه, وهي محدودة نسبيا. 2- ان معظم الدراسات السابقة لم تحدد نطاق الدراسة بالدقة التي يمكن معها تحديد معالم فلسفة العلوم الشرعية. 3- كثير من تلك الدراسات اهتمت بمسألة المنهج فقط على نحو وصفي يميل الى التصنيف والتبويب وإعادة هيكلة للعلم. المبحث الأول: مدخل تمهيدي ومقدمات أولية بالنظر الى سعة الموضوع سوف يتم الاقتصار على المفاهيم المهمة التي تؤسس لمدخل البحث, وفي تصورنا انها يمكن أن تمهد كمدخل لموضوع البحث الذي يتداخل كثيرا مع منظومات مختلفة في التفكير المنهجي من جهة, والفلسفي من جهة والديني من جهة ثالثة. المطلب الاول: فلسفة العلم والمنهج، المفهوم ونقطة الالتقاء ثمة تداخل بين علم المناهج (ميثودولوجيا) وفلسفة العلم, وفيه اتجاهان, يميل أحدهما إلى عدم التفريق بينهما, وهو ما نرجحه على اعتبار التراكم والتكامل بين المجالين, فيما يميل الاتجاه الآخر إلى التفريق واعتبار أن المناهج علم مستقل تتناوله فلسفة العلم كما تتناول العلوم الأخرى, لأن علم المناهج قد يجيب عن ماهية المنهج المتبع في أي حقل أو مجال, لكن فلسفة العلم قد تجيب عن قيمة ذلك المنهج الذي حدده مسبقا علم المناهج, لذا فإن رؤية فلسفة العلم لعلم المناهج توافق رؤيتها لبقية العلوم. المنهج كمصطلح فلسفي على وجه الخصوص يعني: وسيلة المعرفة، وطريقة الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، والطريقة المتبعة في دراسة موضوع ً ما للتوصل إلى قانون أو نتائج أو محصلة عامة . المنهج العلمي هو آية العلم، والعلم آيته، وقد يُقال في تعريف العلم إنه: ضربٌ من المعرفة الموضوعية المختبرة، نصل إليها عن طريق المنهج العلمي التجريبي، وكما يقول جون كيمني: (تعريف العلم على أساس منهجه، أمرٌ يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب سأستعمل كلمة علم للدلالة على المعرفة، التي يُصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي) . ولكن يسهل ملاحظة أن تعريف العلم على أساس منهجه فيه دوران؛ إذ يمكن تعريف المنهج على أساس العلم، فنقول إنه طريقة البحث والتفكير الخاصة بالعلم. والحق أن العلاقة بين العلم ومنهجه علاقة وثقى، قد لا تترك مسافة كافية بينهما، أو يسمح بتعريف أحدهما بالآخر. التقنين منطقي يمكن أن يفتح الباب للخروج من هذا الدوران. وقد اتضح بأن العلم منظومة ممنهجة، والمطلوب الآن تعريف المنهج العلمي . ينتقد (فييرابند) فكرة وجود منهج علمي ثابت، ويطرح أسئلة فلسفية حول شرعية "المنهجية الموحدة , وهذا بالتأكيد ما يدعو إلى نفس التساؤلات حول العلوم الشرعية, بين أن تكون محكومة بنفس المنهج العلمي الثابت, أو يكون لها منهجها العلمي الخاص, ولا يمكن إغفال الخصوصية المعرفية التي تتسم بها العلوم الشرعية, كما سيتضح. ناقش (كلود برنار، 1878م)، هذه الإشكالية بشكل حاسم. إذ رأى أن المناهج تتأتى من جزئيات وتفاصيل العلم. ولا يمكن أن تدرس نظريًّا كقواعد عامة، “إنما تتكون في داخل المعمل الذي هو معبد العلم الحقيقي، وإبان الاتصال المباشر بالوقائع والتجارب العملية” , وهذا يتناسب كثيرا مع واقع العلوم التجريبية لكنه قريب نسبيا من العلوم الانسانية ايضا. وهنا يرز التداخل بين العلم ومناهجها, اذ تولد المناهج من رحم سياق البحث والتفكير داخل العلم, إن جوهر مفهوم المنهج العلمي يتلخص في: أسلوب التفكير العلمي وطريقة سير العلماء في عملهم أو في بحوثهم، وسنرى الآن أن هذا أبعد ما يكون عن تحصيل الحاصل، كما قد يبدو للوهلة الأولى.. جعلت الفلسفة/أم العلوم من «فلسفة العلوم» أهم فروع الفلسفة المعاصرة، والأكثر تجسيدًا وتجريدًا لروح العصر، الحاملة لأبرز الإشكاليات المعرفية الشاغلة في الحقبة الراهنة. وعلم مناهج البحث أو الميثودولوجيا؛ أي نظرية المنهج العلمي في صدر مباحث فلسفة العلوم، بل عمادها وعمودها الفقري . ان فلسفة العلم ذات علاقة جدلية بالمنهج, المنهج يعين فلسفة العلم على اكتشاف العلم, فلسفة العلم تعين المنهج على اعادة تنظيم العلم, لذلك أمكننا القول بأن كلا المجالين متسقان باتجاه بناء وتنظيم المعرفة العلمية. إن فلسفة العلوم الشرعية تنظر أيضا، في تداخل العلوم وتقاطعها, من حيث بناء الأسس، ومنطلقات التفكير في كل علم مثلا, ينطلق التفكير الفقهي من الجزئيات والمسائل، انطلاقا نحو الدليل الشرعي، في حين ينطلق التفكير في علم الكلام من خلال المسائل الذهنية المجردة إلى الواقع الخارجي، فيما ينطلق التصور، والتفكير في العلوم والاداتية, من الحاجة، ومن موقف الاستجابة للأشكال، إلى موقف المعالجة والحسم. المطلب الثاني: فلسفة العلم بين نطاقين: ظهر مجال فلسفة العلم في منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن أثيرت تساؤلات حول العلم من حيث تاريخه وطبيعة قضاياه، وما المعيار الذي نحكم في ضوءه على أن القضية او النظرية علمية او غير علمية، (ظ: يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، عالم المعرفة) وردت تعريفات كثيرة جدا، وعليه لابد من بيان أن الفلسفة على أنحاء ثلاث، فلسفة الوجود (الانطولوجيا)، وفلسفة المعرفة (الابستمولوجيا)، وفلسفة القيم والجمال(الاكسلوجيا)، وهنا ننبه الى مسألة، أن أغلب من بحث في فلسفة العلم، لم يتفقوا على تحديد نطاقها، بل اختلفوا في مضمونها، وقسم كبير يرى أن فلسفة العلم هي التي تختص بالمعرفة فحسب، اي ما يعبر عنه بالأبستمولوجيا، فيما توجد رؤية أخرى مع توسعة النطاق ليشمل انحاء الفلسفة الثلاث، وتطبيقها على العلم، وهو ما نرجحه, اذ لا تنفك الفلسفة بأنحاءها الثلاث عن البحث في طبيعة العلم وخصائص وجوده, وطبيعة قضاياه ومسائله, وهو ما يتعلق بفلسفة الوجود, كذلك لا تنفك الفلسفة من تقييم واختبار مخرجات العلوم وما تؤول إليه من وقائع, ومدى انسجام تلك المخرجات والوقائع مع القيم والمقتضيات الأخلاقية, وفضلا عن ذلك كله, تعمل الفلسفة على تنظيم الاسس المعرفية للعلوم ومصادرها, وطرق الاستدلال فيها. المطلب الثالث: وظيفة فلسفة العلم في نطاق العلوم الشرعية في معرض تناول فلسفة العلوم الدينية، ينبغي ملاحظة المحاولات التي ركزت على بعض من تلك العلوم، كما في (فلسفة الفقه) و(فلسفة أصول الفقه)، وفلسفة الدين كمجال أوسع قد يتداخل بنسبة عالية مع ما تتم المحاولة اليه من اكتشاف ملامح لفلسفة العلوم الدينية، اذ تعد فلسفة الدين مجالا واسعا ومفتوحا على فروع الفلسفة (اللاهوت، الابستمولوجيا، الوجود، القيم والجمال)، في حين تكاد تقتصر فلسفة العلوم الدينية على (المجال المعرفي الابستيمي)، من دون التركيز على تناول المجال الوجودي الانطولوجي او القيمي الاكسيولوجي، ومن هنا تبرز الجدة في تناول فلسفة العلوم الدينية بنحو من الاستقلال عن الفروع الاخرى للفلسفة من جهة، والشمول لجل تخصصات العلوم الدينية من جهة أخرى. لذا يمكن –بنحو أولي, وبحدود تصورنا- تحديد أهداف عدة لفلسفة العلوم الدينية على وفق الفقرات: 1- تحديد طبيعة مصادر المعرفة في العلوم الدينية. 2- تحديد أسس بناء النظرية العلمية في حقل الاختصاص الديني. 3- تحديد طبيعة مناهج المعرفة والفهم في العلوم الدينية, وثمة خلاف حول هذا الهدف, وهل يعد علم المناهج علما مستقلا, أم ممكن أن ينضوي تحت فلسفة العلم.. 4- محاولة تحليل اشكالية الذاتي والموضوعي في البحث المعرفي في العلوم الدينية. 5-تحديد الذاتي والعرضي في البحث المعرفي في العلوم الدينية. 6- تحديد أسس التعاطي مع المعارف الغيبية وتقنين توظيفها في المسارات البحثية بما يتناسب مع مقتضيات البحث العلمي. 7- محاولة اكتشاف وتحديد المرجعيات المعرفية والبرادايم المعرفي من خلال تحديد النماذج الارشادية في مختلف تخصصات المعرفة الدينية. 8- محاولة تحديد قيمة المعرفة التي ينتجها العقل الديني، ومدى ثباتها أو اطلاقها، وتحديد مديات التفاوت فيها. وهذه الفقرات يمكن عدّها أهداف أولية لفلسفة العلوم الدينية، الى حين الاكتمال والنضج حتى تتم معالجة التداخل فيما بينها، أو الاضافة والحذف لبعض منها, لأن مجال الفلسفة أوسع من مجال العلم, ومديات البحث والتفكير في الفلسفة أبعد منها في العلوم, فغالبا ما يكون العلم محددا بأسيجة من النظريات والقواعد التي تشكل نسقا منسجما له اصطلاحاته وحدوده المنهجية, في حين تطرق الفلسفة جميع أبواب المعرفة فيما يخض العلم, فهي تثير التساؤلات وتقترح الإجابات حول كل علم من العلوم الطبيعة أو الإنسانية. واهمية البحث في فلسفة العلوم تكمن في بيان معيار تمييز العلوم الحقيقية عن الزائفة, وثمة ما يتم إلحاقه بالعلوم الشرعية مع كونه يخلو من مقومات العلم الحقيقي, وتتضح المقومات من خلال تحليل البناء والنسق الذي تتألف منه العلوم الشرعية. المطلب الرابع: الخصوصية المعرفية لفلسفة العلوم الشرعية ربما لا يحظى عدّ (العلوم الدينية من جملة العلوم الانسانية) بمقبولية لدى كثير من الدارسين والمتخصصين, إذ تمثل المعارف الدينية حقلا مفارقا في بعض جوانبه، لما يختص به من عناصر تتصل بالغيب، مما يشكل عائقا أمام التفكير المنهجي الذي يفترض التعاطي مع المعارف على أساس كونها معارف بشرية تتسم بطابع من النسبية والتحول وتخضع أيضا للنقد والتغيير..، لذا فإن تناول فلسفة العلوم الدينية يحيل بالضرورة الى تحديد الفاصل المنهجي بين المعارف الغيبية من جهة، وتجليات الفهم البشري من جهة أخرى، وهذا ما يؤول الى إعمال نظر دقيق في فرز ما هو مقدس عما هو أدنى منه، لتتم عملية التنظيم المنهجي بما لا يتداخل مع المعطى الغيبي يؤدي الى مفارقات معرفية غير منتجة. ويمكن إجمال خصائص العلوم الدينية بالفقرات: 1- وجود معاني مقدسة ومفارقة، غير قابلة لأن تكون محلا للتفكير والتعقل، مثل البحث في حقيقة الذات الإلهية وما يتفرع عنها, كما يذكر الرازي مثلا: "إن البحث عن حقيقة الذات الإلهية وصفاته المطلقة يتجاوز إمكانيات العقل البشري، إذ إن العلم في هذا المجال يكتفي بالإثبات النسبي اعتمادًا على النص والعقل معًا" 2- وجود نص الديني قطعي الصدور، غير قابل للبحث في صدق صدوره عن جهة غيبية عليا، والا سوف يكون البحث حينئذ في مجال فلسفة الدين, كما يؤكد ذلك السيد الصدر: "النصوص الشرعية المعتبرة قبلية في ذاتها، ولا يمكن فتح باب البحث في مصدرها ضمن علم الأصول، وإلا تحول النقاش فوريًّا إلى حقل فلسفة الدين" 3- وجود تفاوت في النماذج التي تفسر النص الديني، فمرتبة السنة المبينة أعلى من مرتبة فهم العلماء، ولكل منهما طريقة مختلفة في التعامل, ويذكر الشرفي أن: "ترتيب درجات النقل يكشف عن الفارق بين سلطة الحديث والنص الفهمي للبشر، فالسنة وحي أمين، بينما فهم العلماء اجتهاد بشري قابل للخطأ" 4- مديات التحول والتغير في المعارف الدينية طويلة الأمد، قد تحتاج الى قرن من الزمن لكي تبين وتنكشف, وعامل التراكم المعرفي مؤثر فاعل في توجيه المعارف الدينية, ويشير أركون إلى ذلك بقوله: "معارفنا الدينية تشهد تحولات عميقة بفعل تراكمات معرفية طويلة، ولا يندفع المجتمع نحو فهم جديد إلا بعد أجيال كاملة" 5- التردد في طرح الرؤى بسبب ضغط العامل الإيماني على عامل التفكر والتأمل العقلي، مما يفضي إلى التأني في الفهم وطرح الأفكار, كما يؤكد ذلك حسن حنفي: يُهرس العقل أحيانًا بفعل حماية الإيمان من الشك، مما يجعل الفقيه والإصلاحي يتحلىان بروح المحافظة والتأنّي قبل الإدلاء برأيه" . 6- ثنائية التنظير والتطبيق، العلم والعمل، في جل المعارف الدينية، مما يؤدي إلى تعدد مناهج الفهم بين ما هو نظري وما هو مرتبط بالواقع العملي, يذكر طه عبد الرحمن: "الفهم الشرعي ليس نظرية جامدة، بل رسم طريق للممارسة، وهي ثنائية لا تنفصل: العلم والعمل" 7- ثنائية الموضوع في العلوم الدينية التي تدور حول محور المقدس من جهة، والانسان من جهة أخرى، مما يؤثر في صياغة التصورات التي تحاول أن تكون في حالة توازن بين مقتضيات وجود المقدس من جهة، ومقتضيات وجود الإنسان من جهة أخرى. 8- وجود علوم آلية تمثل وسائل وأدوات في العلوم الدينية كعلم المنطق والفلسفة والنحو والتاريخ وغيرها من الحقول المعرفية التي يمكن أن تؤدي وظيفة العلوم الخادمة. 9- وجود المفاهيم والرؤى الكلية من جهة والجزئية منها من جهة أخرى, مما يجعل التفكير في العلوم الشرعية على مستويين في الغالب. المطلب الخامس: من فلسفة الدين إلى فلسفة علوم الدين: تتناول فلسفة الدين كل ما يرتبط بالدين من خلال رؤية من خارج الدين, تحاول أن تسلط النظر في مديات فهم الدين, من ناحية أصل ونشوء الدين, إلى قيمة عناصر التدين, والهدف من الدين, مما يشير إلى ارتباط خفي مع موضوعات علم الكلام الجديد, وبالتالي فإن فلسفة الدين أرحب وأوسع من أي علم ديني, ويكون البحث في فلسفة الدين ضمن مختلف فروع الفلسفة سواء الوجود أو المعرفة او الجمال والقيم من ناحية معرفية شاملة لما هو علمي أو إيماني، من دون الاقتصار على فلسفة العلم الديني، إذ تختلف زوايا النظر والتفكير في فلسفة الدين عنها في فلسفة علوم الدين، فالأخيرة تعنى بالجانب البنائي الداخلي للعلوم الدينية بنحو من إعادة تنظيم وإنتاج للمعرفة العلمية الدينية. وفيما نعتقد أن فلسفة العلوم الدينية لم يتم الاشتغال عليها بنحو جاد, سوى ما يتعلق بفلسفة الفقه, أو فلسفة أصول الفقه, وأما السعي إلى اكتشاف أو تأسيس فلسفة العلوم الدينية بنحو عام سوف يؤدي وظيفتين في آن واحد: الأولى: سوف تتشكل لدى من يتناول فلسفة العلوم الدينية رؤية جاهزة عن علم المناهج الدينية, إذ لا يمكن التفكير في فلسفة العلوم الدينية من دون تحديد عناصر العلوم الدينية من الناحية المنهجية وكيف يتكون المصطلح, وتحديد مديات النقد, وأصوله, والمتغيرات المنهجية والمفاهيمية التي تتضمنها العلوم الدينية. الثانية: تتمثل في وظيفة فلسفة العلم في ذاتها, من خلال تقييم التصورات العلمية والمعرفية التي تم بناءها, وممارسة النقد في بعض نواحيها, وإعادة انتاج المعارف في العلوم الدينية من خلال ما توفره فلسفة العلم من إضاءات حول المنتج البشري في المعارف والعلوم. ان الفائدة التي يمكن أن تشكل محورا أساسا في فلسفة العلوم الدينية هي عملية ادراك الأنموذج العلمي (البرادايم), وهي عملية لا يوفرها العلم, بل فلسفة العم, ولا يمكن التجديد في أي علم مالم يتم إدراك البراديم الذي يحدد المعرفة ويوجهها من دون أن تتم ملاحظته في الغالب, فانسحاب قدسية الوحي على التفسيرات والتأويلات التي يقدمها البشر لمضامين الوحي هو نوع من سلطة الأنموذج العلمي, فما نطلع عليه من تأويل متداخل مع المضمون المتعالي, وفك التداخل لا يتم إلا من خلال إدراك أن المعرفة الوحيانية تمثل أنموذج يحكم الفهم. على أنه تجدر الإشارة إلى أن حقل أصول الفقه يعد من أهم الحقول في العلوم الدينية التي من شأنها أن تعين على اكتشاف الخرائط المنهجية للعلوم الدينية, وربما يصح أن نطلق على أصول الفقه بـ(علم منهج العلوم الدينية), لكونه يؤسس إلى قواعد قراءة النص الديني من جهة, وترتيب أولويات الأخذ بالأدلة النصية عبر منظومة (القطع والظن), وهو بهذه الحال ممكن أن يكون مؤهلا للتفاعل مع القضايا العقدية أيضا, إذا ما تمت ملاحظة الجانب التنظيمي فيه, من ناحية الاختزال الاصطلاحي, والقواعد التي تنظم عملية فهم النصوص الدينية, لذا يمكن البدء فيه لتأسيس أرضية مناسبة للبحث في فلسفة العلوم الدينية, لأن من اجلى وظائف العلم الديني هو فهم معطيات الوحي, أذ يتعامل العقل العلمي الديني مع ثلاثية: (النص, الواقع, الانسان), وهو ما يحيل إلى ضرورة منهجة التفكير في ذلك الحيز, ومن ثم تشتغل فلسفة العلم الديني على تقييم الممارسة برمتها, بعد إثارة التساؤلات واقتراح الإجابات. ولا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتَّت في مجال المنهج والإنجازات المنهجية وبخلاف مناهج المتكلمين الجدلية، ومناهج الفلسفة الإسلامية الأفلاطونية المحدثة من ناحية، والبرهانية من الناحية الأخرى، ومناهج المتصوفة الذوقية العرفانية، ومن قبل ومن بعد مناهج العلوم الرياضية والتجريبية عند العرب، التي كانت المقددمة الشرطية المفضية منطقيٍّا وتاريخيٍّا وجغرافيٍّا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا، بخلاف كل هذا الرصيد المنهجي يتقدم علم أصول الفقه بموقعه الفريد في منظومة علومنا النقلية/العقلية، لنجده في جوهره لا يعدو أن يكون علما ملناهج البحث. المبحث الثاني: مقاربة تأسيسية لفلسفة العلوم الشرعية ثمة مداخل لدى علماء الشريعة تعين على بلورة الرؤية في التأسيس لفلسفة العلوم الشرعية, ابرزها ما أفرزه البحث الأصولي من تنويع القضايا, والبحث في هويتها المعرفية, ويمكن تناول ذلك عبر المطالب الآتية: المطلب الأول: المقاربة الأصولية لفلسفة العلم والمنهج: في اطار علم الاصول تم بحث موضوع العلم ومسائله، ضمن محاولة تحديد ما يدخل ضمنه وما يخرج، وهو ما يمكن ان نطلق عليه معيار ما هو من علم الأصول وماهو ليس منه، وفائدة ذلك في التمييز بين قضايا علم الأصول وقضايا علم الفقه، والفرز بين العلمين يفيد في هوية ما يبحث في كليهما، وله مقتضياته من حيث تحديد المتخصص في كل من العلمين, بل الأهم من ذلك هو تمايز العلوم كما صرحوا مرارا وتكرارا. إن هذه المسألة بكل تفاصيلها تسهم في خلق وعي منهجي ونضح معرفي ابستمولوجي، لكن ليس من الضرورة إعمامه على جل العلوم الشرعية، ذلك أن العلوم الشرعية في فلسفتها يمكن أن تنتظم تحت بناء منهجي أعم، نحاول بيانه من خلال تحديد الهيكل المعرفي الذي يتسق مع الاطار الكلي للعلوم الشرعية بما تتضمنه من خصوصيات تمت الإشارة اليها سلفا. أولا: البحث في معيار تمايز العلوم: أن القدماء من الأصوليين قد تسالموا على أمرين: الأول: أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. الثاني: أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، ولما كان علم الأصول أيضا علما برأسه، تصدى القوم لبيان موضوعه، فقال بعضهم: إن موضوعه الأدلة الأربعة، وقد خالف السيد محمد كاظم الخراساني القدماء وذكر ما حاصله: إن تمايز العلوم بتمايز الاغراض الباعثة على جمع المتشتتات وتسميتها علما واحدا، لا الموضوعات، وإلا لكان كل باب، بل كل مسألة علما برأسه . ومحل الاختلاف هو كون تمايز العلوم بموضوعاتها أم بأغراضها ووظائفها, وجرت مناقشات أصولية كثيرة حول تلك المسائل, لكن الجمع بينها يحتاج إلى نظر كلي للغرض من علم الأصول, وتحديد الغرض الكلي أيضا يحتاج إلى صياغة محددة, ولنا ان نبين توسط علم الاصول بين النص التشريعي والفهم الفقهي, أو هو الوسط الناقل والحامل لقواعد ومعايير الفهم, بالنحو الكلي الذي يشمل ضوابط الحجية من حيث الصدور ومن حيث الدلالة, على ان علمي الحديث والرجال من العلوم التي تصلح ان تكون مقدمات لعلم الأصول. وإذا كانت الغاية من ذلك النقاش هو تمايز العلوم فما المشكل في تمايزها من خلال أغراضها ووظائفها, أما محاولة تحديد موضوعاتها المختلفة والمتشتتة فلا طائل وراءه سوى الجهد والاختلاف. ثانيا: المبادئ التصورية والتصديقية للعلم عند الأصوليين: ان لكل علم مبادئ تصورية، ومبادي تصديقية, والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع . في مبادئ العلم تدرس القضايا التي يتوقف البحث في ذلك العلم عليها، فمبادئ العلم هي التصورات والتصديقات التي إذا لم يسلم بها لا يمكن التصديق بمباحث العلم, ويذكر بأن مبادئ العلم هي التي يتوقف تصديق العلم أو تصديق مسائل العلم عليها، بالطبع شيئاً فشيئاً تحولت مبادئ العلوم إلى المبادئ التصديقية، وفرضوا قسم المبادئ التصورية ” مصطلحات للعلم”. قال الآملي في تعليقته على شرح المنظومة : (وقد عُرِّف المبادئ في المنطق بما يبتني عليه المسائل، وقُسِّم إلى المبادئ التصوُّرية وهي المفيدة لتصوُّرات أطرافها، مثل حدود الموضوعات وحدود أجزائها وأعراضها، والتصديقية وهي المفيدة للتصديقات المأخوذة في دلائلها كمقدّماتٍ بيّنة بنفسها أو مأخوذة على وجه الإذعان ، مبينّة في علم أعلى ) . ويلاحظ السيد الحيدري على ما أوضحه الآملي بقوله : (لكنّ هذا التعريف الذي ذكره الآملي للمبادئ أغفل نقطة مهمة جدّاً، وهي أنّ المبادئ - أعمّ من كونها تصوّرية أو تصديقية - لا تختصّ بما يبتني عليه مسائل العلم من معرفة حدود موضوعاتها والتصديق بوجودها، وإنّما لدينا مبادئ لنفس موضوع العلم ومبادئ أخرى لموضوعات مسائله, فالفلسفة - مثلاً - موضوعها «الموجود بما هو موجود» والمبادئ يبحث فيها عن تصوّر ماهيّته ومفهومه والتصديق بوجوده وثبوته في الخارج، كذلك الحال في موضوعات مسائل العلم ، فإنّك تقول : «الموجود إمّا واجب وإمّا ممكن، والممكن إمّا جوهر وإمّا عرض» ، و«الإمكان» في هذه الجملة الأخيرة أحد موضوعات المسائل الفلسفية, فالبحث عن المراد من مفهومه وإثبات المقصود من حقيقته من المبادئ التصوّرية، كما أنّ التماس الدليل على إثبات وجوده في الخارج من المبادئ التصديقية, إذن المبادئ على نحوين : أوّلها : مبادئ موضوع نفس العلم ، الذي هو الموجود بما هو موجود في الفلسفة . وثانيها : مبادئ الموضوعات المختصّة بكلّ مسألة من مسائل العلم ، نظير الوجوب والإمكان والعلّة والمعلول والجوهر والعرض ، وغيرها من الموضوعات المرتبطة بالمسائل الفلسفية. ويذكر السيد محمد علي الكاظمي في الفوائد عن المبادئ: (ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها، وليس من مباحث العلم، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم، لعدم تدوينها في علم آخر) , اذ يشير الى ان بحث هذه القضايا يكون من خارج العلم لا من داخله. ان علوم الحديث مثلا, تتضمن مفاهيم مثل مصطلح الحديث، وقواعد مثل ضوابط، ومعايير الصحة والضعف، ونظريات مثل نظرية جبر الاسانيد. فلسفة علم الحديث لا يمكن أن تخلو من تاريخه، ذلك أن طبيعة علم الحديث من سنخ طبيعة علم التاريخ، مما يفضي الى الأثر الجوهري للتاريخ في علوم الحديث، على سبيل المثال ما يبحث عن تنامي الحديث وزيادة عدده بعد عصر الرسول (ص)، وتعليل هذه الظاهرة لا يمكن أن يكون من داخل علوم الحديث، بل من خارجه، وربما يلحق به إذا ما تطور وتراكم، ان ما يعد من فلسفة العلم قد يدخل في العلم عبر التراكم والتناول، حتى يصبح من اهتمامات العلم، ويمكن أن يتسع العلم عبر الزمن بفضل فلسفة العلم. وتندرج تحت المفاهيم كل ما يتعلق بالمبادئ التصورية التي تتكون من قسمين: المبادئ التصورية الخارجية, فمثلاً تعتبر المعارف العقلية الصرفة التي يُستنتج بعضها من البعض الآخر – ضمن مرجعية العقل المجرد ذاته - من البعديات، وفي الوقت ذاته يمكن أن تكون من القبليات عندما تُتخذ كمرجع بالنسبة للحقول المعرفية الأخرى، كالدينية والواقعية والحدسية أو الكشفية. ومن ذلك إنه في الفلسفة التقليدية تتصف قواعد الإمكان الأشرف والصدور وتشاكل المراتب وغيرها بأنها من البعديات بالنسبة إلى الحقل الفلسفي المجرد ذاته. ثالثا: البحث في موضوع العلم: جرى بحث موضوع علم الأصول ومحاولة تحديد الفارق مع موضوع علم الفقه وقيل أن الفقه محوره التكليف والاصول محوره الدليل على التكليف , وقد ذكر المحقق الأصفهاني الأشارة إلى نكتتين النكتة الأولى بين أن علم الأصول لا يوجد له موضوع واحد وهذا خير شاهد ودليل على أن علم الأصول ليس علماً بالمعنى الفني والمصطلح للعلم، لأنه من أهم شواخص العلم بالمعنى الفني أن يكون له موضوع واحد، وباقي الأمور تترتب على ذلك فإذا كان الموضوع واحداً فالمنهج يكون واحد، ويكون التمايز بالموضوعات وغير ذلك من الآثار فإذا انتفى أن يكون للعلم موضوع واحد فبطبيعة الحال هل يوجد هناك منهج واحد أو لا يوجد، هل أن التمايز يكون بالموضوعات أو لا يكون؟ لا يكون، هل أن البحث عن العوارض الذاتية، لا، وهكذا. هذه هي النكتة الأولى. النكتة الثانية المهمة التي أشار إليها، طبعاً هذه النكتة وهي أنه لا يوجد موضوع واحد لعلم الاصول هنا يأتي هذا التساؤل إذن بماذا تتمايز مجموعة هذه المسائل عن مجموعات أخرى من المسائل؟ الجواب: بالغرض المترتب عليها. فيؤكد السيد الحيدري ان تمايز علم الأصول عن غيره يكون بالأغراض، وهذا ما أشار إليه المحقق الطوسي إذ أشار إلى هذه القاعدة أنه تارة يكون التمايز بين العلوم بحسب الموضوعات وأخرى إذا وجد علم وتوجد فيه موضوعات متعددة فإن التمايز يكون بحسب الأغراض المترتبة على تلك المسائل، قال: (والأشياء الكثيرة قد تكون موضوعات لعلم واحد) فهي أشياء كثيرة ولكنها تكون موضوعات لعلم واحد، أو في نجال خاص كما الذي نحن بصدده من التاسيس له في فلسفة العلوم الشرعية. المبادئ التصورية الداخلية, هي المبادئ التي تشكل بنية التفكير ذاته، أي المبادئ التي ينبثق عنها التصور العقلي الأولي للمعرفة قبل أي تفاعل مع الموضوعات الخارجية, وهي تُعَدّ بمثابة شروط قبلية لحدوث الإدراك، وتنتمي إلى مستوى أعمق في البناء المعرفي. ما طُرح في هذا النص يتناول الاختلاف حول موضوع علم أصول الفقه وحدوده المنهجية والمعرفية، ويستعرض نقطتين أساسيتين (نكتتين) أشار إليهما المحقق الأصفهاني، وعلق عليهما السيد كمال الحيدري في إطار تأسيس فلسفة العلوم الشرعية يلاحظ فيه: أن الفقه: محوره الأساسي هو التكليف الشرعي، أي ماذا يجب أو يجوز أو يحرم على المكلف. أصول الفقه: محوره هو الدليل على التكليف، أي القواعد التي نستخدمها لاستنباط الحكم الشرعي. مثال: في الفقه تبحث: هل صلاة الجمعة واجبة؟ في الأصول تبحث: هل الخبر الواحد حجة؟ هل الأمر يدل على الوجوب؟ النكتة الأولى: مشكلة "الموضوع الواحد" في علم الأصول ما المشكلة؟ العلوم (بالمعنى الفني الدقيق) يجب أن يكون لها موضوع واحد تترتب عليه كل مسائل العلم. مثلًا: الطب موضوعه: جسم الإنسان. النحو موضوعه: الكلمة العربية من حيث الإعراب. لكن علم الأصول لا يملك موضوعًا واحدًا: يبحث في اللفظ (مثل: الأمر والنهي). ويبحث في العقل (مثل: الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي). ويبحث في السيرة العقلائية. ويبحث في القياس والاستصحاب إلخ... هذا التعدد في موضوعات البحث يُظهر أن علم الأصول لا يملك موضوعًا موحدًا، مما يطرح سؤالًا: هل يمكن اعتباره علمًا بالمعنى المصطلح الدقيق؟ إذا لا يوجد موضوع موحد وعليه لا يوجد منهج موحد. ولا يمكن تمييزه عن غيره بالموضوع, بل ربما يجب البحث عن معيار آخر للتمييز. النكتة الثانية: التمايز بالأغراض لا بالموضوع هنا يأتي الجواب كما أشار إليه السيد الحيدري والمحقق الطوسي: إذا لم يكن هناك موضوع موحد، فربما يمكن تمييز العلم بـالغرض الذي يجمع هذه المسائل المتعددة. الغرض في علم الأصول: خدمة علم الفقه واستنباط الأحكام الشرعية. وهكذا تصبح المسائل المتفرقة في الأصول موحدة ضمن غرض محدد، وهو: تكوين أدوات وقواعد لاستنباط الحكم الشرعي. إن المبادئ التصورية الداخلية هي التي تُبنى عليها المعرفة ذاتها، وتعمل كأُسس عقلية أولية (كهوية الأشياء، مبدأ عدم التناقض، السببية...). وهذه الفكرة تُستخدم هنا لفهم فلسفة علم الأصول: فعلم الأصول ليس مجرد تجميع مسائل، بل يستند إلى تصور نظري سابق عن المعرفة، والاستدلال، والعقل، والدين... أي أنه مبني على مبادئ تصورية داخلية تتعلق بكيفية فهم النصوص، والعقل، والدلالة. المطلب الثاني: عناصر فلسفة العلوم الإسلامية: مما تجدر ملاحظته، أن البحث والاهتمام بفلسفة العلم عبر التاريخ يخلق تراكما معرفيا، من شأنه أن يدخل تلك المباحث في العلم بنحو تدريجي، وحسب قول هايدجر ان العلم لا يفكر في ذاته، وفلسفة العلم هي من تتولى ذلك، لكن الحال يختلف مع مرور الوقت، اذ يهتم في المتخصصون ولو بنحووتدريجي بما يطرحه فلسفة العلم من تساؤلات واجابات، وشيئا فشيئا تدخل تلك المسائل لتوسع من نطاقة العلم، وفي العلوم الاسلامية أمثلة كثيرة على ذلك، فمداخل الشريعة تتضمن تاريخ التشريع وتقسيم المذاهب وتصنيف المعرفة، وهو ما لم يبحثه العلماء في السابق، واليوم أصبحت تلك المباحث جزءاً من دراسة علوم الشريعة, والدراسات السابقة في مجال فلسفة العلم ركزت كثيرا على المناهج مثل الاستنباط والاستقراء فضلا عن مناهج البحث الفرعية (التحليل والمقارنة ..), وهنا أود التركيز مساحة تكاد تكون مهملة أو متداخلة مع علم المنهج, وأزعم أنها تؤثر وتتأثر بكثير من مسائل فلسفة العلم, وذهب فلاسفة المذهب الوضعي الى تسمية (علم العلم) وبحثوا جوانب ثلاث : الاول: تاريخ العلم الثاني: سيسولوجيا العلم والجماعة العلمية الثالث: سيكولوجية العلم، وعلم النفس المعرفي. 1. تاريخ العلم: يبحث في تطور المعرفة العلمية عبر العصور، وديناميكيات التغير في النظريات والمناهج، وتأثير العوامل الثقافية والاجتماعية على نمو العلم. يمكن أن نجد أمثلة على ذلك في أعمال كون (Thomas Kuhn) حول الثورات العلمية ونماذج التحول في العلم. 2. سوسيولوجيا العلم والجماعة العلمية: يدرس هذا الجانب التفاعل بين العلماء كمجتمع، والبُنى المؤسسية التي تؤثر في إنتاج المعرفة العلمية، مثل الجامعات والمجلات العلمية والمراكز البحثية. كما يناقش كيف تتأثر الجماعة العلمية بالسياسة والاقتصاد والأيديولوجيا، كما ظهر في دراسات روبرت ميرتون (Robert Merton) حول أخلاقيات المجتمع العلمي. 3. سيكولوجية العلم وعلم النفس المعرفي: يتناول العمليات الذهنية والإدراكية التي تؤدي إلى الاكتشافات العلمية، مثل الإبداع، الحدس، الاستدلال، واتخاذ القرار. يدرس أيضًا كيف يبني العلماء قناعاتهم وكيف يتعاملون مع المعلومات الجديدة أو المتناقضة، وهو ما تطرق إليه علم النفس المعرفي الحديث في دراسات حول التحيزات الإدراكية وأساليب التفكير العلمي. إن هذه العناصر الثلاث تعد من الامتدادات المعرفية لفلسفة العلم في العصر الحديث, وهي ضرورية ولها أبعادها في فلسفة العلوم الشرعية, فتاريخ العلوم الشرعية له دوره الكبير في بيان الأطر والأرضيات المعرفية التي بنيت عليها المعرفة داخل العلم, كذلك دراسة المجتمع العلمي واختلاف البيئات العلمية, وتصنيف المشتغلين في العلم على مستويات, كما الحال في الفقهاء والمجتهدين, وطلبة العلم المتفاوتين ايضا.. وبالنظر إلى ممارسة التفلسف حول العلم بأبعاد الفلسفة الثلاثة يمكن تقرير: 1. فلسفة الوجود وأثرها في تحديد هوية العلم وعلة وجوده, فضلا عن الحقاق التي يتم إثباتها, إذ تركز هذه الجهة على الأسئلة الوجودية التي تتعلق بماهية الواقع العلمي ومكانة العلم في تفسيره. 2. فلسفة المعرفة, وهي التي تصدرت المشهد, فأخذت على عاتقها البحث في مصادر ومناهج المعرفة العلمية, و كيفية حصول العلم على المعرفة وما هي الطرق والمناهج التي يتبعها, مثل التجربة والملاحظة، والحدس، والتحليل الرياضي والمنطقي في بناء المعرفة, وما يتعلق بالنقد والتحقق, واخبار اليقين والبرهان. 3. فلسفة العلم من حيث القيم وتأثيرها في الواقع العلمي, إذ يتناول هذا الجانب العلاقة بين العلم والقيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، مما يؤثر على توجهات البحث العلمي وإنتاج المعرفة, وضمان تحقيق تلك القيم في ما تؤول إليه البحوث والاستدلالات في العلوم الشرعية. الفرع الاول: التحليل المنهجي للعلوم الشرعية: يمكن ملاحظة أن العلوم الشرعية في بناءها المعرفي تتكون من: أولا: الوقائع والمعطيات: وهي الأرضيات المعرفية التي تتضمن القبليات, وما يمكن ان يساوق المبادئ التصورية والتصديقية للعلوم, ومنها المفاهيم القبلية التي توجه مسائل العلم : إن لدى المنهج العلمي قبلياته المنضبطة فضلاً عن غير المنضبطة، والحال ذاته ينطبق على مسألة الفهم الديني، اذ يستحيل ان يقام الفهم من غير قبليات منضبطة تحكمه, فللقبليات أنواع واصناف مختلفة يتقوم بها الفهم، مثلما يتقوم بها الادراك والعلم، كالذي عرضناه في دراسة مستقلة, ومن حيث الاساس تنقسم القبليات الى قبليات صورية وتصديقية، كما تنقسم الاخيرة الى قبليات منضبطة وغير منضبطة , ويشير يحيى محمد هنا إلى ما يقارب المبادئ التصورية والتصديقية لكن بشيء من التفصيل والاضافة, وملاحظة ما هو منضبط منها وماليس بمنضبط. ان القبليات المنضبطة هي التي تمت صياغتها بنحو علمي منهجي, مثل القبليات الفلسفية او المنطقية كالدلالات واقسامها, أو العلاقات بين المفاهيم من حيث العموم والخصوص, والقبليات غير المنضبطة هي التي تنشأ في بيئة أو سياق قديكون مذهبيا أو مدرسيا, كما في قاعدة (الرشد في خلافهم), والتي لا تستند إلى اساس علمي منضبط, بقدر ما تعبر عن انتقاء عقائدي قد يصح البناء عليها أحيانا. ثانيا: المفاهيم: وهي التصورات التي تنشأ في بدايات تأسيس العلم, وتمثل النواة الأساس في بنيته وتطوره, وهي على مستويات ثلاث: المستوى التفسيري: المفاهيم التي تتمثل بالمصطلحات وايضاحها, وبيان موضوعات أحكام الفقه, ومفردات القرآن الكريم, والحديث الشريف, ومصطلحات علوم القرآن ومصطلح الحديث, وكل ما يمكن أن يخضع للتفسير والايضاح والبيان. المستوى الموجه: المفاهيم التي توجه التفكير العلمي, من حيث توفر مرحلة التفسير والتوجيه, مثل أسباب النزول وعلل الأحكام ومقاصدها والحكم منها, والسياق والقرائن الحالية واللفظية, واغلب الاستدلالات التي يجريها الفقيه والأصولي والمفسر, وأمثالها, مما لا يصل إلى مرحلة القاعدة, لكنه يؤثر بنحو فاعل في مسار التفكير العلمي. المستوى التقويمي النقدي: مثل الترجيح, والمقارنة, والنقض, ونقد الأدلة, ومناقشتها, وكل ما يتضمن النقد والتعديل أو التصحيح. ثالثا: القواعد والمعايير: وهي الضوابط التي تنشأ لتنظيم العلاقات بين المفاهيم نفسها من جهة, والمفاهيم وموضوعاتها في الواقع الخارجي من جهة أخرى, كما في القواعد الفقهية, والقواعد التفسيرية والأصولية وقواعد علم الحديث والرجال. رابعا: النظريات: وهي مساحة أوسع من المعاير تتضمن رؤى كلية متكاملة حول موضوع محدد. على مستوى الفقه الاسلامي عرفت النظرية بالنظريات الفقهية الأساسية تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى، التي يؤلف كلٌّ منها على حِدَة نظامًا حقوقيًّا موضوعيًّا منبثًّا في الفقه الإسلامي، كانبثاثِ الجملة العصبيَّة في نواحي الجسم الإنساني، وتَحكُّم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شُعَبِ الأحكام، وذلك كفكرة الملكيَّة وأسبابِها، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه، وفكرة الأهلِيَّة وأنواعها، ومراحلها وعوارضها، وفكرة النِّيابة وأقْسامها، وفكرة البُطلان والفساد والتوقُّف، وفكرة التعليق والتقييد والإضافة في التصرف القولي، وفكرة الضمان وأسبابه وأنواعه، وفكرة العرف وسلطانه على تحديد الالتزامات، إلى غير ذلك من النظريات الكبرى، التي يقوم على أساسها صرحُ الفقه بكامله، ويصادف أثر سلطانها في حلول جميع المسائل و الحوادث الفقهية(1), وعلى مستوى الأصول مثل نظرية الأصل العملي, ونظريات علوم الحديث والرجال, ونظريات التأويل اللسانية الحديثة التي تدخل في تفسير النصوص الدينية. الفرع الثاني: الخارطة الذهنية لعناصر العلوم الشرعية إن الفرز في الجدول أدناه, يعد تصورا أوليا, يحاول تشكيل خارطة ذهنية يؤسس من خلالها, بناء فلسفة العلم والمنهج, في العلوم الشرعية, والجدول في أدناه يتضمن مستويات ثلاث: المفاهيم والقواعد والنظريات, على أن مساحات التداخل فيما بينها وراد بالتأكيد, بحسب زوايا النظر والاعتبار, إذ يعد تصور وإدراك المفاهيم نسبيا في إطار العلاقات بين المفاهيم. العنصر/العلم الفقه أصول الفقه علم الكلام علم التفسير علم الحديث 🔹 المفاهيم - الحكم الشرعي - الواجب / الحرام - العلة الشرعية - الحجية - الدلالة - الأمارة, الاصل - التوحيد - النبوة - العدل الإلهي - المحكم والمتشابه - التأويل - النسخ - الحديث الصحيح - المتن - الإسناد 🔹 القواعد - لا ضرر ولا ضرار - قاعدة: اليقين لا يُزول بالشك - الأمر يدل على الوجوب - قاعدة حجية خبر الواحد - امتناع التسلسل - قاعدة اللطف - نفي الجبر - تفسير القرآن بالقرآن - حمل العام على الخاص - الجرح والتعديل - اتصال السند 🔹 النظريات - نظرية الحق - الاحتياط بالدماء - نظرية المصلحة نظرية الاصل العملي, الاجزاء, حجية الظن المعتبر - الحسن والقبح العقليان - نظرية الإمامة - الوحدة الموضوعية - التدبر الموضوعي للقرآن الوثوق, الوثاقة, النقد المتني والسندي وعلى سبيل المثال وتقريب الصورة يمكن عد بعض المفاهيم في أصول الفقه: ومن ضمنها المفاتيح التي تُستخدم لتحليل النصوص، مثل "الظهور"، "القطيع"، "الظن"، "البراءة"، "الحجية". والقواعد التي تُستخدم لتحديد كيفية التعامل مع النصوص الشرعية: مثال: "الأمر يدل على الوجوب"، "النهي يدل على الفساد"، "الاستصحاب حجة". والنظريات, التي تعد منظومات تفسيرية تبني منهجًا لاستنباط الأحكام، مثل: نظرية الدليل (الحجية، التوثيق، المقدمات) نظرية الظن (منهج التعامل مع المظنونات) نظرية الاصل العملي (منهج تحديد الموقف في حال الشك). الفرع الثالث: التعريف بالبرادايم (Paradigm) وتطبيقه في العلوم الشرعية: يُعدّ مصطلح "البرادايم" (Paradigm) من المفاهيم المركزية في فلسفة العلم الحديثة، وقد رسّخه الفيلسوف الأمريكي توماس كون (Thomas Kuhn) في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية", وقد عرّف كون البرادايم بأنه: (مجموعة من المعتقدات والقيم والتقنيات التي يتقاسمها أعضاء مجتمع علمي معين، وتعمل كأنموذج إرشادي لفهم الظواهر، وحل المشكلات، وبناء النظرية العلمية) , في هذا السياق، يُفهم البرادايم على أنه لا يقتصر على النظريات العلمية فحسب، بل يشمل أيضًا ما يُعرف بـ "البنية المعرفية" التي يتأسس عليها فهم الباحثين للواقع. تطبيق مفهوم البرادايم على العلوم الشرعية: عند محاولة توظيف مفهوم البرادايم في العلوم الشرعية، يُمكننا إعادة صياغته على النحو الآتي: "البرادايم في العلوم الشرعية هو الإطار المرجعي الكلّي الذي يوجّه عملية الفهم، والتفسير، والاجتهاد، وبناء المواقف الشرعية، ويحدد أفق التعامل مع النصوص الدينية (القرآن، السنة)، ومع مصادر التشريع الأخرى (العقل، الإجماع، المقاصد..)." وقد أشار بعض الباحثين الإسلاميين إلى أهمية هذا المفهوم في نقد البنية التقليدية للعلوم الشرعية، ومنهم: طه عبد الرحمن في مشروعه حول "تجديد المنهج"، حيث يؤكد على ضرورة تغيير النموذج المعرفي لا مجرد الأدوات . محمد عابد الجابري في حديثه عن العقل الفقهي وضرورة تجاوز برادايم "البيان" باتجاه "البرهان" و"العرفان" , وعبد المجيد الشرفي في تناوله لتاريخية النص وفهمه في ضوء تحولات البرادايم الفقهي , وربما يستدعي كل منهم إلى دراسة مستقلة. يرى المفكرون المعاصرون أن تاريخ العلم لا يمكن فهمه بوصفه تقدمًا خطيًا متراكبًا فقط، بل هو أشبه بسلسلة من الثورات المعرفية التي تنقلب فيها المفاهيم والمناهج والبُنى التفسيرية رأسًا على عقب. ويُعدّ توماس كون من أبرز من بلوروا هذا التصور، عبر مفهومه "النموذج الإرشادي" (Paradigm)، الذي يُشكل بمثابة عقل جمعي يتحكم في ما يعتبره المجتمع العلمي حقيقة، وما لا يعتبره كذلك . وفقًا لهذا النموذج، يمر العلم بمراحل: مرحلة ما قبل البرادايم: فوضى وتعدد نظريات. العلم المألوف: استقرار نموذج تفسيري. الأزمة: بروز شروخ في النموذج. الثورة العلمية: انبثاق نموذج جديد. ويمكن تطبيق ذلك على العلوم الشرعية, ومثال من أصول الفقه عبر مراحل قياسا على النموذج السابق في أعلاه يمكن وصفها على: 1- مرحلة ما قبل البرادايم, توافر النصوص في عصر النبي (ص), والتداول غير المنظم في علوم مصنفة. 2- المرحلة التقليدية (البرادايم النصي): حيث كانت مدرسة أصول الفقه الكلاسيكية – خاصة عند الشافعي والجويني والغزالي – تشتغل تحت نموذج تفسيري لغوي – نصي – اجتهادي فردي, والمفاهيم مثل: الأمر، النهي، العام، الخاص، تعارض الأدلة, والمنهج: استنباط الحكم من النص عبر قواعد ثابتة. 3- مرحلة الأزمة: بدأت مع دخول المتغيرات الاجتماعية والسياسية الكبرى، مثل: تناهي النصوص وتجدد الوقائع, وما لا نص فيه, والحداثة، الدولة، العولمة, فظهرت إشكاليات في قدرة الأصول الكلاسيكية على الإجابة عن قضايا الواقع. 4- الثورة البرادايمية, (مواقف الاستجابة) وقد برزت مشاريع تجديدية مثل: نظرية الأصل العملي عند الإمامية (جهد الشيخ الأنصاري) نظرية المقاصد عند الشاطبي ثم الطاهر بن عاشور, النموذج الوظيفي عند طه عبد الرحمن, النسق المعرفي المقارن عند الشهيد محمد باقر الصدر في "الأسس المنطقية للاستقراء". تأتي أهمية الحديث عن فكرة البرادايم، من خلال كونه يخلق وعيا شاملا وعاما حول المسار والعلم وطبيعة تشكل قضاياهم.

*الامن الفكري وحرية الفكر، قراءة في التوازنات* ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي

ملخص تم تناول الامن الفكري في دراسات واسعة وكثيرة, وهنا نحن بصدد الملاحظة على مفهوم الامن الفكري في إطار ضرورة ان تكون عناصر المفهوم ذات ابعاد انسانية, تركز على حفظ النظام العام وسلامة المجتمع من الأفكار الهدامة التي تهدد سلمه وتماسكه, على خلاف الرؤية المتشددة التي تخلط بين الامن الفكري من جهة, وتطبيق الشريعة الاسلامية بنحو ملزم من جهة أخرى, وتم عقد مقاربات مع الرؤية المقاصدية من خلال كون الأمن الفكري يتوافق مع حفظ العقل أكثر من توافقه مع حفظ الدين, إذ أن الأخير له وسائله الأخرى في غير مجال الأمن الفكري, ومن ناحية توافق الأمن الفكري مع الحرية الفكرية فإن عدم التعارض يكمن في ملاحظة موضوع كل منهما, إذ يركز الأمن الفكري على الجماعة أكثر منه على الفرد, في حين تضمن حرية الفكر حق الفرد في التفكير والتعبير عن آراءه ما دام لا يؤثر على النظام العام, لأن الأمن الفكري أحد وظائف الدولة دينية كانت أم مدنية, ومن مخاطر الأمن الفكري هو توظيفه الخاطئ من قبل الجماعات المتطرفة, إذ هو سلاح ذو حدين, ويمكن أن يتحقق الأمن الفكري من خلال توفر المعايير الموضوعية والتوازنات الإجرائية التي يمكن أن تثمر عن دراسات بحثية تشخيصية لكل مجتمع تبعا لخصوصياته الدينية والثقافية. مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم ‏الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد يتناول مفهوم الأمن بنحو عام كثير من تفاصيل حياة الإنسان بدأ من الجانب العسكري والوسائل المادية وحتى الجانب الفكري والوسائل المعنوية والأسباب والمسببات التي تؤثر على النظام العام للمجتمع بهذه الورقة البحثية سيتم تناول إشكالية الأمن الفكري من ناحية نطاقه ومحدداته ومدى توافق فلسفة الأمن الفكري مع حرية الفكر والتعبير عن الرأي وفق معطيات متعددة من الاتجاهات الدينية والفكرية المختلفة. يشهد العالم المعاصر ارتباكاً متعدد الاتجاهات يرجع في اغلبه إلى التنوع الفكري والثقافي والأيديولوجي الذي يهيمن على الشعوب والمجتمعات, وتحكم السياسات والنظم كثيراً من الاتجاهات الأيديولوجية الدينية بشتى أمزجتها الفكرية والعقدية بنحو بالغ, ويؤثر الدين والمعتقد على السياسات واتجاهات الحكم وسبل إصدار القرارات المصيرية للأمم, لذلك فإن ظهور تلك التوجهات الفكرية بين الإفراط التفريط تمثل منعطفا خطيرا في مجال المخاطر التي تواجه الأمم والشعوب. ‏ويهدف البحث إلى الكشف عن مفهوم الأمن الفكري من خلال ملاحظة معطيات الواقع الراهن كذلك يهدف إلى الكشف عن الوسائل والأدوات اللازمة لذلك والكشف عن مدى التوافق واختلاف بين الأمن الفكري من جهة وحرية الفكر من جهة أخرى. ‏لذا سيكون منهج البحث متضمنا مدخلا يتناول الإطار النظري للبحث وطبيعه الإشكالات ومباحث يتناول الأول منها ضرورة الأمن الفكري ومدياته ويتناول الثاني منها الأمن الفكري وحرية الفكر وسبل تحقيق التوازن بينهما ويتناول الثالث منهما مخاطر توظيف الأمن الفكري بنحو خاطئ. مدخل ‏‏أحيانا تنمو أفكار وتتطور الى الدرجة التي تهدد كيان المجتمع وهويته الثقافية ومستقبله السياسي كل ذلك يجعلنا أمام أمر واقع يتلخص في ضرورة وجود أمن فكري لمختلف ما يطرح من أفكار وثقافات، وبإمكان هذه الضرورة أن تحد من مخاطر التطرف الفكري وما ينتج عنه من عنف، وقد ذهبت عدة دول إلى تطبيق سياسة الأمن الفكري وفرض الرقابة على الأفكار وما يطرح في الفضاء الثقافي المرئي والمقروء والمسموع بحيث يتم تحصين المجتمع من أية أفكارها هدامة تمس الأمن القومي ودين الدولة الرسمي وما عليه المجتمع من مبادئ وتقاليد محترمة, لكن هذه السياسة لا تخلو من إشكاليات بنيوية ومنهجية, ‏فاما المنهجية فهي ما تتصل باشكالية الموازنة بين الحرية الفكرية من جهة والأمن الفكري من جهة أخرى, ‏وأما البنيوية فهي ما تتصل بمادة ومحتوى التقيد ببعض الأفكار إذ تم توظيف ذلك في مشكلة التشدد السلفي وتوظيفه المفرط لأدبيات الأمن الفكري باتجاه فرض آرائه ومتىباته الفكرية على مختلف فئات المجتمع. وفيما يتعلق بمفهوم الامن الفكري, “الأمن الفكري هو اطمئنان الفرد على سلامة فكره، وصحة عقيدته، وخلوّه من الانحرافات الفكرية التي تخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة , كما جاء تعريف آخر بأن الأمن الفكري هو تحقيق حالة من الثبات والطمأنينة الفكرية للمجتمع، تحميه من الغزو الفكري والانحراف عن المبادئ الإسلامية , ‏إن تعريف الأمن الفكري بمفرده تعبر عن اطمئنان الفرد وسلامة فكره وصحة عقيدته وتقييد هذا التعريف بما يخالف العقيدة الصحيحة ربما لا يعبر تماما عن المفهوم الذي ينبغي أن يكون عليه الأمن الفكري وهذه الملاحظة على التعريفين, ‏والأفضل أن تكون النظرة والأول الأولوية لا أهمية اطمئنان الإنسان والمجتمع بالدرجة الأولى لأن المجتمع بصفته المجموعية لابد من حفظ كيانه ونظامه العام وحمايته من أي أفكار تربط نسيجه وسلمه الداخلي. ‏هناك من يطلق مصطلح التحصين الفكري وهو ما يشير إلى جانب من الوقاية أكثر منه إلى مفهوم العلاج والإجراء , في حين ان المفهوم يختزل الدلالتين في مدياته الاجرائية. الامن الفكري يضمن الايمان من جهة ويراقب الدعوة والتبني لقضايا الايمان وملازماته من جهة اخرى الامن الفكري يحفظ الدين ام يحفظ العقل؟ وفق القراءة السلفية فإن الأمن الفكري يحفظ الدين, في حين القراءة المعتدلة لاحظت أن وسائل حفظ الدين متوفرة في مجال مغاير لمجال الأمن الفكري, وأن الأمن الفكري يهتم بفكر الإنسان, لذلك فهو مهتم بحفظ العقل. ‏ويمكن القول أن الأمن الفكري هو مجموعة الوسائل الرقابية التي تضمن تماسك المجتمع على مستوى الهويات الثقافية والعقديه تجنبا لأي إخلال بالنظام العام. ‏لأن الذي يقابل الأمن الفكري هو الفوضى الفكرية والأفكار العبثية, ولذي يحقق الامن الفكري, هو التوازنات والمعايير, التوازنات على مستوى إدارة المنظومة المعرفية, والمعايير على مستوى مرجعيتها لتلك الإدارة. ومن المشكلات المحورية في مفهوم الامن الفكري انه جاء في سياق دعوي وقيام الأمارة الاسلامية من خلال الجهاد كما بين تلك المخاطر أحد الباحثين المعاصرين. لذا كان من الضروري إدراك خطورة التوظيف, والخلط الذي يحصل بين الامن الفكري, وضرورة تطبيق الشريعة وفق ايديولجيات خاصة. والحرية الفكرية من جهة أخرى, لم نتناول تعريفاتها, لكثرة تناولها وتداولها, ويكفي أن نستند إلى المرتكز الذهني العام الذي يتيح ربطها بحيثيات الأمن الفكري, وما يستتبعه من وسائل إجرائية. المبحث الأول: الامن الفكري وحرية الفكر: لا شك في ضرورة الحرية الفكرية في مختلف الثقافات الدينية والوضعية, ولكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة , وإشكالية الأمن الفكري والحرية الفكرية تمثل تحديًا معقدًا في المجتمعات، حيث يُسعى لتحقيق توازن بين حماية المجتمع من الأفكار الضارة والمتطرفة، وبين احترام حقوق الأفراد في التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية. وتكمن الإشكالية في الفقرات: 1. التداخل بين الأمن الفكري وحرية الفكر: الأمن الفكري يهدف إلى حماية المجتمع من الأفكار التي قد تهدد استقراره أو تدفع إلى التطرف، بينما الحرية الفكرية تمنح الأفراد الحق في التفكير والتعبير عن آرائهم, ومع ذلك، قد يتعارض ذلك أحيانًا، إذ يمكن أن يُنظر إلى بعض الأفكار الجديدة على أنها تهديد للأمن الفكري، ما يثير تساؤلات حول حدود الحرية, وهذا التداخل لا بد أن تحدده أطر واضحة, أهمها أن الأمن الفكري من أولوياته استهداف الجماعة, وأن الحرية الفكرية من أولوياتها استهداف الفرد, وهنا تخف وطأة التعارض. 2. حدود التعبير والمسؤولية الفكرية: من أهم التحديات في هذا السياق هو وضع حدود واضحة للحرية الفكرية، بحيث لا تمس أمن المجتمع وسلامته, فالتعبير عن الأفكار يجب أن يكون مصحوبًا بالمسؤولية، بمعنى ألا تؤدي هذه الأفكار إلى إثارة العنف أو الكراهية أو الإضرار بالآخرين. 3. الخوف من الرقابة والقمع الفكري: قد يُوظف الأمن الفكري كذريعة للحد من الحرية الفكرية وممارسة الرقابة أو القمع على الآراء التي لا تتماشى مع التوجهات السائدة، مما يؤدي إلى تقييد الفكر الإبداعي والنقد البناء، ويُعتبر ذلك خطرًا على تطور المجتمع, وهذا واضح في التوظيفات السلفية المتشددة في وسائل الأمن الفكري, فغالبا ما يربطون بينها وبين (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو مجال مغاير تماما . 4. إشكالية تحديد “الأفكار الهدامة”: من الصعب أحيانًا تحديد ما إذا كانت الأفكار فعلاً هدامة أو مجرد وجهة نظر مختلفة، فالتفرقة بين الفكر المتطرف الضار والتعبير الفكري العادي قد تكون ضبابية. لذا، يعد هذا تحديًا للمجتمع في تحديد المعايير التي يتم من خلالها تقييم الأفكار, ‏ويمارس الفكر السلفي المتشدد توظيف حادا للأمن الفكري من خلال مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتكفير وإخراج الناس عن الملة تحت إطار الأمن الفكري, ويتعسف في تحديد الأفكار الهدامة . 5. الموازنة بين الانفتاح الفكري والحفاظ على الهوية: في عصر العولمة والانفتاح المعلوماتي، تتدفق الأفكار المختلفة من مصادر متعددة، مما قد يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية والدينية للمجتمع. ويكمن التحدي هنا في تعزيز الانفتاح على الأفكار مع الحفاظ على خصوصية الهوية الثقافية,, لذلك دعت الحاجة إلى تعزيز الوعي الفكري والتربية السليمة لمواجهة التحديات الفكرية بنحو متوازن، فينبغي تعزيز وعي الأفراد ليكونوا قادرين على التمييز بين الأفكار البناءة والضارة, فالتعليم السليم والوعي الفكري يساعدان في توفير مناعة ضد الأفكار الهدامة، وفي نفس الوقت يُعززان احترام حرية التفكير. سبل تحقيق التوازن: يتطلب تحقيق التوازن بين الأمن الفكري والحرية الفكرية إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا يحمي حرية التعبير، ويضع في الوقت نفسه ضوابط لمنع إساءة استخدام هذه الحرية للإضرار بالمجتمع، بحيث تكون هذه الضوابط عادلة وموضوعية. الامن الفكري موضوعه المجتمع والجماعة والنظام العام, وليس الفرد, لذا من الممكن هنا عقد المواصلة بين حرية الفكر التي يتم ضمانها للأفراد بالدرجة الأولى, وتتم الرقابة الفكرية على الجماعات بالدرجة الأولى, ‏أي أنه من أولويات الأمن الفكري هو الجماعة للفرد، من أولويات الحرية الفكرية هو حرية الفرد في اختيار ما يقتنع به من أفكار دينية أو غير دينية, لذلك يمكن التأكيد على: 1- تعزيز وعي الأفراد بقيمة حرية الفكر ومسؤولية التعبير, ويمثل القانون الضمان الأول لخلق التوازن, من خلال قوانين عادلة تحمي المجتمع من الأفكار المتطرفة دون التضييق على حرية الفكر, كذلك ترسيخ مبدأ الحوار المفتوح حول القضايا الفكرية والاختلافات في الرأي، بحيث يمكن للأفراد التعبير بحرية مع الحفاظ على السلامة الفكرية للمجتمع. 2- تطوير نظام تعليمي يركز على الفكر النقدي، بحيث يستطيع الأفراد مناقشة الأفكار بموضوعية دون الانجرار نحو التطرف, بتحقيق هذا التوازن، يمكن بناء مجتمع يحترم حرية الفكر ويصون في الوقت نفسه أمنه واستقراره . 4. تشجيع الحوار البناء بين الأفراد والجماعات: الحوار المفتوح حول القضايا الفكرية والدينية يخفف من مخاوف سوء الفهم أو التطرف, ويمكن للمجتمعات إقامة ندوات ومنصات للنقاش الحر بحيث يتمكن الأفراد من التعبير عن آرائهم وتبادل الأفكار في أجواء منفتحة وآمنة, وللحوار المفتوح أهمية كبيرة كوسيلة لتعزيز الأمن الفكري، إذ يسمح بتبادل الآراء والأفكار بحرية، مما يساهم في بناء فكر متوازن ومستنير . لذلك يعد الحوار العلمي من خلال قيم الاجتهاد التي أكد عليها كثير من الفقهاء المسلمين, كما ذكر السيد جواد العاملي في مفتاح الكرامة ما معناه: الاجتهاد أساس بناء الفكر الاسلامي الصحيح) وهو ما يدل على ضرورة منح العقل بعض الصلاحيات في تنقيح المفاهيم وفهم النصوص بما يعزز حالة صحية على مستوى التفكير العلمي. 5. التركيز على الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة: الشراكة في قيم العدالة، والأخلاق، واحترام الآخرين يمكن أن تكون أساسًا للتماسك الاجتماعي، مما يعزز مناعة المجتمع ضد الأفكار المتطرفة ويحمي الأمن الفكري دون المساس بحرية الأفراد, إن تعزيز مبدأ الوسطية في الدين يؤدي إلى فكر متوازن مبني على العقيدة الصحيحة، مما يساهم في تحقيق الأمن الفكري دون المساس بحرية الفكر , الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا” ، وهذه الوسطية تعني البعد عن الإفراط والتفريط، وتجنب التشدد أو التهاون في الدين. 6. تفعيل دور المؤسسات الدينية والفكرية: المؤسسات الدينية والثقافية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في التوعية بأهمية التوازن بين حرية الفكر والأمن الفكري، وتوجيه الأفراد نحو فهم سليم للعقائد والمعتقدات بشكل يمنع التطرف ويشجع على التفكير العلمي الموضوعي. 7. توعية المجتمع بمخاطر الفكر المتطرف: تعزيز الوعي بمخاطر الأفكار التي تدعو للعنف أو التعصب يمكن أن يكون أداة فعالة لحماية الأمن الفكري, من خلال برامج توعوية وتثقيفية، يمكن توجيه الأفراد نحو فهم أعمق لقضايا حرية الفكر وعلاقتها بالاستقرار المجتمعي. 8- تعميق وعي التعايش السلمي وتقبل الآخر من خلال الإعلام, الذي يمكن أن يقوم بدوره في تعزيز قيم التسامح وتقبل الآراء المختلفة، وأن يبتعد عن إثارة القضايا الخلافية بشكل قد يؤدي إلى التوتر أو التشدد . ويحدد بعض الباحثين , مراحل تحقيق الأمن الفكري على المستوى الاجرائي في أوساط التعليم من خلال مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: ‏مرحلة الوقاية والتحصين من الانحراف الفكري من خلال تفعيل مؤسسات التنشئه الاجتماعية والمؤسسات التعليمية على مستوى النخب والكفاءة الإدارية والأكاديمية المرحلة الثانية: ‏مرحلة الحوار والمناقشه واستيعاب الشباب واحتواء الاختلافات, فقد لا تنجح جهود الوقاية في ضد الأفكار المنحرفة من الوصول إلى بعض الشباب وخاصة الجامعي سواء كان مصدر هذه الأفكار داخليًا أو خارجيًا, ثم لا تلبث هذه الأفكار أن تنتشر وتستقطب المزيد من الشباب, وتتوقف درجة انتشارها على مدى يقظة المسؤولين عن التعليم الجامعي بأهداف وغايات هذه الأفكار والتيارات, وذلك يستدعي تدخل أصحاب الفكر والرأي من المفكرين والباحثين للتصدي لهذه الأفكار ودحض مزاعمهم بالحجج والبراهين من خلال الحوار والمناقشة. المرحلة الثالثة: ‏المرحلة الثالثة من خلال التقييم والعلاج وفرز الأفكار المنحرفة وتقييم مخاطرها, ثم ينتقل العمل إلى مستوى آخر هو تقويم هذا الفكر وتصحيحه, ودور المؤسسات التربوية ومنها الجامعة يحتل مكانًا بارزًا في هذه المرحلة بمفكريها وأساتذتها بالحوار والمناقشة وتحليل ما يحمله هؤلاء من أفكار منحرفة, وتقييم مخاطرها وما قد يترتب من أعمال إجرامية. المبحث الثالث: ضرورة الامن الفكري تمثل عقيدة أي مجتمع جزءا هاما من هويته, ومن الأمور التي يسعى المجتمع إلى تأمينها هي أفكاره ومعتقداته وما يؤمن به, لذا فإن الأمن الفكري حق اجتماعي لأنه يرتبط ببنية المجتمع وتماسكه, ومهددات الأمن الفكري تارة تكون خارجية كما في الغزو الفكري والثقافي, وأخرى تكون داخلية, وهو ما يتم تناوله في هذه الورقة البحثية, والمهددات الداخلية على نوعين: الأول: الفتن الطائفية والخلافات المذهبية, والتي تحدث غالبا بسبب عوامل سياسية. الثاني: حدوث متغيرات في العقيدة وهذه تتخذ منحيين: المنحى الأول: الذي يأخذ جانب التفريط العقدي, كما في الإلحاد واللادينية, بمعنى الانسلاخ عن العقيدة ومغادرة المعتقد. المنحى الثاني: الذي يأخذ جانب الافراط العقدي, وهذا ما سيتم التركيز عليه في هذا المقال, وهو ما يمثل الانحراف العقدي, وربما لم يتضح الفرق بين الملحد والمنحرف عقديا أو ربما ينبغي تحديد الفارق بينهما.. الملحد ببساطة هو من انسلخ عن اي اعتقاد.. ولا يمكن ان يكون الملحد -حسب مفهوم الالحاد / انكار الخالق- انسانا معتقدا بالضرورة, بل هو انسان رافض لأصل فكرة الاعتقاد, ومنكر لوجود الإله الخالق, بينما يمكن تحديد المنحرف عقديا بكونه من يعتقد اعتقادا باطلا ومنحرفا, خارج على المألوف والمتفق عليه داخل الدين الواحد, فمهما تعددت واختلفت المذاهب والملل, فإن الاعتدال يقتضي الحكم عليها بالعقائد الاسلامية التي يتم الاعتراف بها نسبيا ولو على مستوى التعايش والتصالح الاجتماعي, إنما المشكلة في الاتجاهات الفكرية التي تطرأ على الواقع الديني على هيأة حركة أو مذهب بنحو يعد انحرافا عن المسار العام للفكر الديني, واطلاق صفة الانحراف على تلك الحركات الطارئة من شأنه أن يمثل فارقا عن الحركات التي تسعى إلى التجديد في الرؤية الدينية بنحو هادف وعلمي, فحتى لا يتم الخلط بين حركات التجديد الديني التي تظهر بنحو طبيعي في كل مرحلة زمنية, والتي تختلف بالتأكيد عن الحركات التي تنبثق عن قراءة شاذة أو استثنائية للفكر الديني لتنبثق عنها ديانة أو مذهب جديد, وأغلب تلك الحركات الدينية أو المذهبية الجديدة تعاني من التشدد في خطابها, وطرحها, بالنحو الذي يتيح لصاحبها أن يرى أحقية اعتقاده، من خلال إضفاء القدسية والحقانية على طرحه المشوه، مما يستتبع جملة من الخصائص : أولا: يعتقد بصحة اعتقاده رغم مخالفته للاعتقاد الحق او للاعتقاد المتفق عليه نسبياً. ثانيا: يقطع ببطلان الاعتقادات الحقة والصحيحة والمتفق عليها. ثالثا: قد يؤدي خطابه الى معاداة بقية العقائد وربما يمارس العنف والاقصاء لمن يخالفه في المعتقد. رابعا: يمارس اصحاب تلك الحركات التضليل والتجهيل لاتباع العقيدة الحقة بنشر أفكارهم من دون أسس علمية ذات أوصل مشتركة للحوار, فيكون منحى التشدد وتغليب المعتقد هو السائد على حساب بقية الاتجاهات الراسخة في المجتمع. إذن يمكن التمييز بين ظهور تيارات فكرية تجديدية قائمة على البحث العلمي والتي تسعى إلى تجديد الرؤية والفهم لجانب أو جوانب عدة من الفكر الديني, وتيارات دينية أشبه بالغنوصية القائمة على ادعاء علاقة ما مع الغيب, أو ادعاء صدارة ما على حساب جموع علماء الدين في المجتمعات الدينية, وهي أشبه ما يمكن التعبير عنه بالطفرة العلمية التي تحصل بنحو مفاجئ وطارئ على الساحة العلمية في مجال علوم الدين. الفرق بين الملحد والمنحرف عقدياً على مستوى الخطورة: – ان الملحد قد لا يظهر إلحاده او يظهره على مستوى الجدال والنقاش ولو بنحو غير علمي في حين يحاول المنحرف عقائديا أن يظهر عقيدته ويفرضها على الآخر ولو بالقوة ويكون ذلك باسم الدين وتحت غطاء مشروع ومضلل في الوقت نفسه . – في الغالب لا يجبرك الملحد على اعتناق فكرته.. في حين غالبا ما يلجأ المنحرف عقائديا الى فرض رأيه وإجبارك عليه. – قد لا يتسبب الملحد بخلق فتن دينية في المجتمع بقدر ما يسببه المنحرف عقائديا من خلال عسكرة المجتمع وخلق الفتنة وتكريس حدة الخلاف الفكري والعقدي في داخل المجتمع الديني. – من اليسير ان يهتدي الملحد مع توفر عوامل داخلية في نفسه من قبيل الفطرة السليمة او يبقى في حدود الحاده من دون ان يؤثر على استقرار المجتمع وأمنه الفكري فليس بالضرورة ان يكون الملحد مثلا متنكرا للقيم الاجتماعية والاخلاقية, في حين يهدد المنحرف عقائديا السلم الاجتماعي من خلال ما يبثه من افكار تسعى الى استقطاب وعي المجتمع من اجل اعتناق افكاره الجديدة, وهو ما يبدي العسر في تغيير قناعته العقدية. ولسنا هنا بصدد التقليل أو التهوين من خطر الالحاد بقدر ما نحاول الفات النظر والانتباه الى جانب مهمل نوعا ما من خطر الانحراف العقدي الذي يظهر على هيأة حركات فكرية وعقائدية تربك الأمن الفكري والعقدي للمجتمع، وتدخل الافراد في صراعات دينية داخلية لا تقل خطراً عن جانب التفريط في العقيدة الذي يمثله موقف الالحاد. إذن جانب الإفراط العقدي –إن صح التعبير- لا يقل خطرا عن جانب التفريط في العقيدة, ويأتي إطلاق (الإفراط العقدي) من ملاحظة الغلو في فكرة جزئية ما, أو في المبالغة في تقديس شخصية ما, أو التكثير في فكرة ما, وما شاكل ذلك من مظاهر الإفراط في الميل إلى مجال محدود وضيق من الفكر الديني أو النماذج الدينية. لذا بات من الضروري العمل على تفعيل جانب الأمن الفكري والعقدي الذي يسهم في حفظ السلم المجتمعي، وعدم ترك الباب مفتوحاً أمام الأفكار التي تخرج المجتمع عن تماسكه العقدي وتدخله في صراعات تمس أمنه الثقافي. كما يشير الى ذلك السيد محمد حسين الطباطبائي بقوله: (التفكر في الدين يجب ان يكون ضمن إطار الوحي وإلا أدى الى الانحراف) , مشيرا الى ضرورة وعي الثوابت والأطر التي تشكل معايير واضحة في الحكم على القضايا والأفكار. إن مجتمعنا اليوم يتعرض الى تلك الانحرافات بنحو غير لافت ويسري ببطء وخفاء بين فئات اجتماعية بسيطة, وهو ما تمثل بظهور بعض التيارات المنحرفة باسم الدين والتي من غير الممكن التصريح ببعض منها، بل تكفي الاشارة الى بعض سماتها من قبيل ظهور من يدعي النبوة او المهدوية أو بعض الحركات التي تضرب مسلمات هامة في الاعتقاد الديني، واذ نسلّم ببعض الاختلافات المذهبية التي استقر المجتمع على استيعابها واحتوائها والتعايش معها على اساس التنوع العقدي والتعدد المذهبي, فظهور الجديد الطارئ يختلف بالطبع عن الموجود والمستقر سلفاً.. فثمة اختلافات سائغة من قبيل اختلاف الديني والعلماني واختلافات المذاهب والملل وهو أمر طبيعي غالبا ما يخضع لأخلاقيات الحوار والنقاش والمجتمع الراهن قادر نسبياً على تجاوز دوائر الاختلاف تلك بنحو لا يؤثر على الامن الفكري والثقافي، لكن المجتمع الراهن ربما لا يمكنه تجاوز الاختلافات الطارئة التي تظهر بنحو مفاجئ وبأقنعة دينية تعمل على بث روح العداء والفرقة بين افراد المجتمع. إن موضوع الأمن الفكري ذو مديات واسعة وهامة تستدعي بحثا مستقلا, لكن قدر تعلقه بمفردتي الالحاد والانحراف العقدي هو ما تم التركيز عليه في هذه السطور, آملين أن يلقى الموضوع اهتماما بالغا من الجهات المعنية, من مؤسسات دولية أو اعلامية أو دينية. خلاصة ونتائج ‏مما تقدم يمكن تقرير بعض الخلاصات والنتائج: • ‏إن الأمن الفكري ينطوي على شقين في مفهومه الأول هو التحصين والثاني هو الوسائل الإجرائية • ‏إن الأمن الفكري يتقاطع مع الحرية الفكرية عندما يتم استخدامه ضد الأفراد أو الأفكار الفردية بوصفه أسلوبا أو وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حين أن الأمن الفكري يستهدف الجماعات والإنساق الفكرية المعدة بنحو منظم له القابلية في إخلال النظام. • ‏من الناحية المقاصدية فإن الأمن الفكري من وجهة نظر سلفية متشدده يهدف إلى حفظ الدين ومن وجهة نظر عقلانية معتدلة يهدف إلى حفظ العقل والكيان الاجتماعي. • ‏يتم تحقيق التوازن بين مقتضيات الأمن الفكري والحرية الفكرية من خلال اكتشاف المعايير والوسائل الكفيلة لتحقيق ذلك التوازن. • ‏الأمن الفكري ذو السماء عمومية موضوعه الشأن العام وهو لا يقترب من الخصوصيات الفردية ما لم تكن لها أصداء في الشأن العام الإعلامي والتعليمي والاجتماعي. • ‏ضرورة وعي توازنات الخطاب الديني ومقتضيات الحرية الفكرية من خلال تعميق الصلة والاعتراف بالآخر المختلف على المستوى الفكري. • ‏ضروري وعي الثوابت المشتركة بين الأديان لتكون إطارا مرجعيا لتصنيف الموضوعات والقضايا التي تخضع للأمن الفكري. • ‏تتعاظم الجهود مشتركة بين الأفراد والمؤسسات في إرساء الأمن الفكري هوامش البحث: