image

د. اسعد عبد الرزاق

باحث في الشأن الديني المعاصر / العراق / النجف الاشرف

post

التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي من منظور قرآني ا.م.د أسعد عبد الرزاق الاسدي كلية الفقه جامعة الكوفة Asaada.al-asadi@uokufa.edu.iq


ملخص
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. أما بعد فإن الاقتصاد يمثل أحد أبرز دعائم النشاط البشري، والذي يحظى بعناية كبرى من التشريعات والقوانين الإلهية والوضعية، وعلى مستوى الدين الإسلامي، لقد تجلى البعد الاقتصادي. في ضمن تعاليم الشرع والقواعد الكلية، فضلا عن القيم العليا للإسلام. إذ ضمنت مصلحة الإنسان في تحديد خياراته الأساسية فيما يتعلق من جانب الاقتصادي.
وفي إطار الفهم التفسيري للقرآن الكريم، نجد مجموعة من الآيات القرآنية التي تؤسس إلى حالة التوازن الاقتصادي في الحياة من خلال ترشيد وعي الإنسان إلى إحتياجاته، ومدى استثماره لإمكانياته وفرصه ومحاولة تلبية احتياجاته, اسمه. ويأتي هذا في سياق نظام التمكين الإلهي للإنسان من خلال قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سورة الأعراف: 10
يتجلى التمكين على مستويات مختلفة من ضمنها مستوى الإعمار في الاستعمار في الأرض، ليدرك الإنسان حينها ضرورة أن يوازن بين عناصر الاستهلاك في نشاطه، ومتطلبات الإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي. الذي يضمن المصلحة العامة للمجتمع، فضلا عن ضمان المصالح الفردية الأخرى, (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) الجاثية: 13 , وفي ضمن الاستخلاف وتسخير ما موجود على الأرض لصالح الإنسان، يأتي الاختبار للإنسان في كيفية تطبيقه في مقتضيات الاستخلاف على نحو من الابتلاء، في ضوء سنة الاختلاف والتباين في مستويات البشر وإمكاناتهم، كما في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) الأنعام: 165
ويأتي هذا البحث متناولا إشكالية التوازن ليلا الاستهلاك كنشار بشري والإنتاج كنشاط بشري آخر وفق موازين السنانية ومادية وضعها الله تعالى, لذلك، تتم محاولة الإجابة عن تساؤلات هامة:
أين يتجلى التوازن بالفعل الإنساني؟ بين متطلبات الاستهلاك والإنتاج، وكيف توجه القيم القرآنية الإنسان نحو تحقيق ذلك التوازن؟ وهل تتشكل خصائص مميزات الاقتصاد الإسلامي؟ بفضل توجيه تلك القيم الخادمة؟

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فإن الاقتصاد يمثل أحد أبرز دعائم النشاط البشري، ويحظى بعناية كبرى من التشريعات السماوية والقوانين الوضعية. وفي إطار التعاليم الإسلامية، نجد أن البعد الاقتصادي قد احتل موقعًا بارزًا ضمن منظومة القيم والتشريعات التي تهدف إلى حفظ مصالح الإنسان وتوجيه سلوكه وفق ميزان الحكمة والعدل.

تنبع أهمية هذا البحث من صميم الحاجة المعاصرة إلى إعادة فهم العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج بوصفها محورًا رئيسًا في تحقيق الاقتدار الاقتصادي، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، التي تكشف عن خلل في بنية التوازن بين ما يستهلكه الإنسان وما ينتجه، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.

وتكمن مشكلة البحث في التساؤل عن مدى حضور مفهوم التوازن في النشاط الاقتصادي الإنساني، وفي تحديد كيفيات بناء اقتصاد قادر على تحقيق الاكتفاء والازدهار من خلال ضبط سلوك الإنسان الاستهلاكي وتوجيهه نحو الإنتاجية الفاعلة، في ضوء القيم القرآنية. إذ يُطرح التساؤل الآتي:
أين يتجلى التوازن في الفعل الإنساني بين متطلبات الاستهلاك والإنتاج؟ وكيف توجه القيم القرآنية هذا الفعل لتحقيق التوازن الاقتصادي المنشود؟

أما أهداف البحث فتتركز في:
1. تحليل المفاهيم المرتبطة بالاستهلاك والإنتاج والاقتدار الاقتصادي في ضوء الرؤية القرآنية.
2. تسليط الضوء على تداعيات الإفراط في الاستهلاك وانعكاسه على أزمة القيم والخلل الاجتماعي.
3. استكشاف عناصر بناء الاقتدار الاقتصادي كما وردت في النصوص القرآنية، وبيان دورها في تعزيز التنمية المتوازنة.
4. الإسهام في تقديم قراءة معرفية قرآنية قادرة على رفد الفكر الاقتصادي بمنظور قيمي وإنساني متكامل.
ومن هذا المنطلق، يسعى هذا البحث إلى الجمع بين التحليل المفاهيمي والقراءة القيمية للقرآن الكريم، للوقوف على طبيعة التوازن الذي يدعو إليه الإسلام بين الاستهلاك والإنتاج، بوصفه مدخلًا أساسًا لبناء مجتمع مقتدر اقتصادياً، قائم على العدالة والكفاية والفاعلية.







المطلب الأول: المدخل النظري للبحث:
لابد من تحديد المفاهيم المركزية للبحث من خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: مفهوم التوازن:
ليس من اليسير تعريف بعض المفاهيم التي تكتسب وضوحا كافيا, وربما البيان في حدود التوظيف لها في مجال محدد, لذا يمكن ايضاح التوازن في مستويات ثلاث:
أولا : التوازن في الكون والطبيعة
نجد في آيات متعددة تصويرًا بديعًا لتوازن الخلق، بما يشمل الأرض، والسماء، والموارد، والزمن، حيث لا خلل ولا عبث ولا فوضى، بل كل شيء موزون ومقدّر بقدر معلوم , كما في قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) وقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) , وقوله تعالى: (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)
هذه الآيات تشير إلى أن الخلق قائم على ميزان دقيق، ما ينعكس في انتظام الفصول، ودورات المياه، وتكامل الغذاء، وتوزيع الموارد.
وقد أكد المفسرون أن "الميزان" هنا يعني العدالة، التوازن، والاعتدال في كل مناحي الحياة، وهو ما ينسحب على العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، بين الطلب والعرض، وبين الإنفاق والإدخار .
ان التوازن في نظام الخلق, جلي ومحل نظر وبحث من قبل علماء الطبيعة, وهذا التقدير في الخلق يعبر عن مستوى من التوازن الطبيعي الذي يرتهن بقاءه بتوازن فعل الانسان, والانسان اليوم من خلال تجاوزه لكثير من موازين الاستهلاك نجده يهدد ذلك التوازن الطبيعي, وأزمة المناخ خير مثال على ذلك.

ثانيًا: التوازن في مقام النفس
الإنسان مخلوق مركب من الروح والجسد، والعقل والعاطفة، والرغبة والضمير، وقد شرّع الله له ما يحفظ هذا التوازن الداخلي، حتى لا يطغى جانب على آخر
ومن الآيات الدالة:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) أي سوّاها تَسويةً متوازنة بين مختلف عناصرها, وقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) , توجيه لتوازن بين الدنيا والآخرة، والزهد والاستمتاع المشروع.
لقد أودع الله تعالى كثيرا من الثنائيات المتنافية والمتضادة في داخل النفس البشرية, والتي تعد جزءا من الاختبار الالهي للإنسان, إذ ينشأ الصراع داخل الإنسان أولا ومن ثم يشهده في خارج كيانه ووجوده.
ثالثًا: التوازن في مقام المجتمع وحاجاته
حثَّ القرآن الكريم على إقامة العدل الاقتصادي والاجتماعي، وهو مظهر من مظاهر التوازن في توزيع الثروات، وتحقيق الكفاية، وكبح الجشع، وضمان الاستقرار الاجتماعي.
مثال من قصة شعيب عليه السلام:
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) , يربط بين اختلال التوازن في البيع والشراء وظهور الفساد في الأرض.
(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) , إشارة إلى وجوب منع احتكار الثروة وتكريس العدالة التوزيعية, والتنمية المتوازنة بين الحكومة والشعب؛ وتصريح الإمام علي (عليه السلام) الآتي، يجسّد أروع وأدق وأفضل تعبير عنه، إذ يقول (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ: فَإِذَا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى إِلَيْهَا الْوَالِي كَذَلِكَ، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، فَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطَابَ بِهِ الْعَيْشُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ, وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ، فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الْأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ.
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ وَإِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ، بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ، وَلَيْسَ امْرُؤٌ وَإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ، بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلَا امْرُؤٌ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ، بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ‏) .
ونصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أن المسيرة الإصلاحية التنموية لابد لها من أن تتحرك باتجاهين وبشكل متزامن: فمن جهة تتجه نحو الولاة والحكام والرعاة، ومن جهة تتجه نحو المحكومين والناس والرعية، كما أن نصوصه (عليه السلام) واضحة الدلالة على أنه إنما تقوم مناهج الدين وتعتدل معالم العدل وتتحقق بعدها مراتب الإحسان والفضل ويربح الولاةُ والناسُ الدنيا والآخرةَ معاً بصلاح ذلك الزمان، ويطيب العيش، وتستقرّ الدولة وتزدهر، فيما (إِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا), وبعير هذا بنحو جلي عن التوازن بين السلطة والمجتمع بحسب مقتضيات الحاجات والمصالح العامة.
رابعًا: التوازن في الموارد والإنتاج والاستهلاك
وهو ما يظهر في آيات تدعو إلى الاعتدال، وترشيد الاستهلاك، وربط النعمة بالمسؤولية:
كما في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) , وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) , الاستهلاك حق، لكن بحدود الحق والتوازن، لا الإفساد والإهدار, والتوازن في القرآن الكريم ليس مجرد وصف طبيعي، بل نموذج قيمي ومنهجي للحياة، يشمل كل المجالات: النفس، الكون، المجتمع، الاقتصاد، السلوك. وكلما اختل هذا التوازن، اختلّ معه الأمن والاستقرار والكرامة الإنسانية، ولذلك فإن الرؤية القرآنية للتوازن تمثل أساسًا لبناء أمة مقتدرة وعادلة.

الفرع الثاني: مفهوم الاستهلاك والإنتاج في القرآن الكريم
- من خلال الاسترشاد بالآيات في هذا المجال، مع الكشف على العلاقة التكاملية بين مفهومي الإنتاج والاستهلاك في الرؤية القرآنية.، وأهمية التوازن بين الاستهلاك والإنتاج في الحياة الاقتصادية للأمة، والمخاطر أو السلبيات التي يمكن أن تنجم عن أي خلل بينهما.
يعرف الاقتصاديون المعاصرون الإنتاج بمفهوم شامل بأنه "خلق المنفعة أو زيادتها" والتعريف بهذه الصياغة غير مقبول إسلاميا ولا يتفق مع حقيقة العملية الإنتاجية، ذلك أن للخلق في اللغة معنيان( )
أمر اللَّه عباده باعمار الأرض في قوله تعالى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}( ) ويقول المفسرون في معنى ذلك أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والابنية( ).
الفرع الثالث: مفهوم الاقتدار الاقتصادي في الفكر الإسلامي:
هو قدرة الأمة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتأمين الاحتياجات الأساسية لأفرادها، وبناء قوة اقتصادية إنتاجية تجعلها مستقلة في قرارها السياسي، وفاعلة في العلاقات الدولية, الاقتدار الاقتصادي في الفكر الإسلامي ليس مجرد هدف مادي أو رفاه اجتماعي، بل هو ركيزة من ركائز تحقيق العزة والكرامة والاستقلال للأمة، ووسيلة لتمكينها من أداء دورها الرسالي في العالم.
الاقتدار الاقتصادي يشير إلى القدرة التي تملكها الدولة أو المؤسسة أو الفرد على إدارة الموارد الاقتصادية المتاحة بفعالية لتحقيق أهداف معينة، مثل النمو، والاكتفاء الذاتي، والتأثير في العلاقات الاقتصادية الدولية.
(الاقتدار الاقتصادي هو القدرة على إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات بكفاءة، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتوظيف الموارد لتحقيق التفوق أو التوازن الاستراتيجي) , ويعرفه آخر: (الاقتدار الاقتصادي أحد أبعاد القوة الشاملة للدولة، ويشكل قاعدة للقوة السياسية والعسكرية والدبلوماسية) , وفي الاقتصاد الإسلامي، يُفهم الاقتدار الاقتصادي على أنه القدرة على تحقيق الكفاية والعدالة في توزيع الموارد وفقًا لمبادئ الشريعة، مع مراعاة الاستقلال الاقتصادي عن التبعية لغير المسلمين، وتوجيه المال لتحقيق مقاصد الشريعة.
(الاقتدار الاقتصادي في الإسلام لا يُقاس فقط بمستوى الدخل القومي، بل بمدى تحقيق الكفاية والكرامة لكل فرد، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة، وعدم الوقوع في التبعية الاقتصادية) .

















المطلب الثاني: التداعيات الراهنة للاستهلاك
هناك جملة من التداعيات والآثار لما آلت إليه مظاهر الاستهلاك في المجتمعات المعاصرة, ويمكن تغطية هذا الجانب من خلال:
الفرع الاول: الآثار المعنوية لظواهر الاستهلاك:
عند التأمل في انعكاسات النزعة الاستهلاكية على المنظومة القيمية والثقافية، يتبين أنها تُحدث تحولات عميقة في البنية الثقافية للمجتمع, من أبرز هذه التحولات تسليع الهوية الثقافية، إذ تُفرغ القيم الموروثة من مضامينها الأصيلة، وتُحوّل إلى مجرد منتجات قابلة للاستهلاك أو إلى عناصر شكلية تُستخدم لتزيين نمط حياة عصري لا يمت بصلة لروحها الأصلية, وبهذا يتم فصل هذه القيم والموروثات عن جذورها الثقافية العميقة، وتفقد دورها الحيوي في تشكيل وعي الفرد وهويته ضمن الإطار الجمعي للمجتمع.
ولا يقف التأثير عند هذا الحد، بل يمتد إلى بنية العلاقات الاجتماعية ذاتها, إذ تسهم النزعة الاستهلاكية في ترسيخ قيم الفردانية والانغلاق داخل الذات، مما يُضعف الروابط الاجتماعية ومفاهيم التضامن والتكافل بين الأفراد, كما تظهر آثار هذه النزعة في ترجيح كفة التنافس المادي بين الناس، حيث يُقاس النجاح والتفوق بمقدار ما يملكه الفرد من سلع ومقتنيات، لا بما يسهم به من قيم وعطاء مجتمعي, وهكذا تتحول قيمة الإنسان من جوهره الإنساني وإسهاماته الحضارية إلى مجرد انعكاس لما يستهلكه، ما يؤدي إلى خلل عميق في العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويهدد بنية التماسك الاجتماعي.
الفرع الثاني: الندرة النسبية (Relative Scarcity):
هناك ما يعرف في الاقتصاد بالمشكلة الاقتصادية، والتي تتمثل فيما يعرف بالندرة النسبية, والتي تعني ندرة الموارد الاقتصادية المتاحة بالنسبة للحاجات والرغبات الإنسانية .
هي حالة تكون فيها الموارد الاقتصادية محدودة مقارنة بالحاجات والرغبات الإنسانية غير المحدودة، أي أن المورد نادر لأنه لا يكفي لتلبية كل الاستخدامات الممكنة له، حتى وإن كان متوفراً في الطبيعة بكثرة.
الندرة في علم الاقتصاد لا تعني الندرة المطلقة، بل الندرة النسبية، أي أن الموارد تكون نادرة بالنسبة للحاجات، وليست نادرة من حيث وجودها الفعلي فقط.
موقف الباحثين في الاقتصاد الإسلامي حول هذه القضية ..
فهناك من رفض قبول فرضية الندرة النسبية استنادا إلى بعض النصوص القرآنية، ورأوا أن في تقريرها مخالفة للاعتقاد الصحيح بأن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بالرزق وأوحد في الأرض كل ما يحتاجه البشر. فمن النصوص قول الله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان الظلوم كفار ) ، وقوله تعالى : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ... ) ، وقوله تعالى : ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) وقوله تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها .... ) . فهذه النصوص القرآنية وغيرها تبين أن الله تعالى قد تكفل بالرزق وقدر في الأرض أقوالها تقديرا يغطي حاجات الإنسان بل يفيض عن حاجاته.
وهناك من الباحثين من يقرر أن فرضية الندرة النسبية لا تتنافى مع تلك النصوص الشرعية ولا تتعارض مع المعتقدات الإسلامية ، من خلال وصف ملائم يقبله العقل الواقع الحياة الاقتصادية مستدلا ما يلي :
1- أن دلالة الآيات التي يستشهد بها من يرفض المشكلة الاقتصادية ليست دلالة قطعية ، كما أن في القرآن الكريم من النصوص ما يشير إلى انصاف هذا العالم بالندرة في الموارد وأن الموارد ليست متاحة لبني البشر بالطبيعة ، مسئل قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) ، وقوله تعالى: ( ولو بسط الله الرزق العباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ) , أن هناك من الأوامر الشرعية والآداب الإسلامية ما يعضد قبول فرضية الندرة النسبية، فالحث على الاقتصاد في الموارد والنهي عن الإسراف والتبذير يدل على إقرار محدودية الموارد إذ لو كانت الموارد غير محدودة لما برزت الحاجة إلى مثل هذا السلوك.
2- مفهوم البركة في الإسلام يؤكد محدودية الموراد وندرتها اليه، فالبركة ليست سنة كونية موجودة بل هي منحة ربانية ونعمة إلهية يمن الله بها على من يشاء من عباده فيجعل القليل كثيرا، ولو كانت الموارد وافرة کثيرة بشكل يعطي حاجات البشر جميعا لم يكن في البركة معنى المنحة الربانية التي اختص الله بها بعض عباده.
3- الواقع والحس يؤيدان محدودية الموارد الاقتصادية فعلى مستوى الفرد أو المجتمع في الغالب لا يوجد من تتوافر له كل الموارد اللازمة لتلبية جميع ما يحتاجه الناس.
الفرع الثالث: القيم التي توجه سلوك الاستهلاك:
الاستهلاك ضرورة حياتية، لكنه في المنظور القرآني يخضع لضوابط قيمية تقيه من الانزلاق نحو الإفراط أو التحلل الأخلاقي, ومن هذه الضوابط:
1- الاعتدال والتوازن, كما في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) , والإسراف مرفوض لأنه يؤدي إلى إضعاف القوة الاقتصادية للأفراد والمجتمعات, وقد أشار المفسرون إلى أن الآية تدعو إلى الاقتصاد في المعيشة دون تقتير أو تبذير , في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير، ولكن عند التأمل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبين أن الإسراف هو الخروج عن حد الاعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئا، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أن ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أننا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف، وهي تمثل خروجنا عن حد الاعتدال، ولكن من دون أن نخسر شيئا .
2- رفض التبذير والترف, كما في قوله تعالى: (ولا تبذر تبذيرًا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) , التبذير لا يُعد خللاً مالياً فحسب، بل انحرافًا أخلاقيًا، إذ قرن المبذرين بالشياطين، تعبيرًا عن فساد سلوكهم, في تفسير (الإسراف) و(الإقتار) كنقطتين متقابلتين، للمفسرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أن (الإسراف) هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و (الإقتار) هو أن ينفق أقل من الواجب .
3- الربط بين النعمة والشكر, كما في قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) , فالاستهلاك في الإسلام ليس فعلًا ماديًا خالصًا، بل فعلٌ تعبدي يرتبط بالشكر والاعتراف بالمنعم, فالإسلام لا يضبط اتجاه الاستهلاك نحو الطيبات فقط، إنما يضبط درجته أيضاً؛ فالإنسان مأمور بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمّن كامل طاقته ومنهي عن الإسراف وتجاوز الحد الذي يستلزمه ذلك، قال تعالى: "وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف: ٣١)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل والبس واشرب وتصدق في غير سرف ولا مخيلة".ويأتي توجيه السلوك الإنفاقي متسقاً مع هذا التوجه ومؤكداً وسطية الاستهلاك، قال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) ، والشواهد في هذا السياق كثيرة. والأحكام الواردة في هذا الصدد تحصّن المجتمع المسلم من أنماط الاستهلاك غير الرشيدة فلا ترف ولا تبذير، وبالمقابل لا بخل ولا تقتير، فكلا الأمرين جنوح لا يتسق مع الفطرة ولا مع الشرع .
الملفت للانتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمرا مسلما لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعا، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.












المطلب الثالث: عناصر الاقتدار الاقتصادي في ضوء القيم والمبادئ العليا
في هذا المطلب تتم محاولة استجلاء القيم العليا من خلال القرأن الكريم والتي من شأنها أن تحدد طبيعة الاقتدار الاقتصادي للمجتمعات, وذلك من خلال الفروع:
الفرع الاول: عناصر الاقتدار الاقتصادي:
مفهوم الاقتدار في الرؤية الإسلامية ينظر له كأداة لتحقيق العدل الاجتماعي عبر توزيع عادل للثروات, وحماية الكرامة الإنسانية من الفقر والاستغلال, وتحقيق الكفاية ثم الفضل: كما جاء في الحديث: (من أصبح منكم آمناً في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا), وهذا ما يتوافق مع مفهوم الأمن الاقتصادي, وأسس التنمية المستدامة.
وعناصر الاقتدار الاقتصادي وفق الرؤية القرآنية هي:
أولا: التمكين: في قوله تعالى : " ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون " التمكين في الأرض هو الاسكان والايطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض ، ويمكن أن يكون من التمكين بمعنى الاقدار والتسليط ، ويؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم وإبليس وقد بدئت الآيات فيها بقوله : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) ، وهو التسليط والتسخير , غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله : " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " كان المعنى الأول هو الأنسب وقوله : " ولقد مكناكم في الأرض " ( الخ ) كالاجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة, والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها، والآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلط والاستيلاء عليها، وجعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، ولذلك ختم الكلام بقوله : " قليلا ما تشكرون "
ثانيا: الخلافة والاستخلاف: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) , يُنظر إلى الإنسان، في الرؤية الإسلامية، على أنه خليفة لله تعالى في الأرض، قد أُنيطت به مهمة العمارة والاستثمار في إطار تكليف إلهي مباشر، قائم على ما وهبه الله من سلطة وقدرة على تسخير الموارد الطبيعية وتوظيفها بما يحقق حاجاته ويحفظ وجوده. وقد قرر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) .
وجوهر هذا الاستخلاف يتمثل في تفويض إلهي يتيح للإنسان حرية التصرف ضمن حدود التشريع الإلهي، ليتمكن من الاستمتاع بنعم الحياة، ويستوفي مقومات معيشته. وهذا المفهوم يتكرر في نصوص متعددة، تتضافر لتؤكد أن يد الإنسان مبسوطة على الوجود، وأن له سلطة شرعية في التعامل مع العالم المادي. وقد أشار ابن خلدون إلى هذا المعنى في مقدمته، مبينًا أن الاستخلاف يُضفي على الإنسان صفة الفاعلية الحضارية.
وانطلاقًا من هذا التفويض، جاء التكليف الإلهي بعمارة الأرض، كما في قوله تعالى:
(هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) , وقوله سبحانه: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) , ويقتضي هذا الاستخلاف من الإنسان أن يتولى إدارة الموارد وتنظيم الإنتاج والاستهلاك وفق ضوابط المنهج الإلهي، الذي يتجلى في المذهب الاقتصادي الإسلامي، وهو مذهب يحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والثروة، كما يرسخ أبعاد العلاقة بين الفرد والمجتمع، ضمن الإطار المقدس للعلاقة الاستخلافية التي تربط الإنسان بالله عز وجل.
ومن هنا، فإن مفهوم الخلافة الإنسانية الذي قرره القرآن الكريم يشكل أساسًا محوريًا للنظرية الاقتصادية الإسلامية، حيث يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمال والسلطة بما يضمن التوازن بين الامتلاك والمسؤولية. وقد أكد القرآن هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) ،
في إشارة واضحة إلى أن التفاوت في الملكيات والقدرات هو جزء من سنة الابتلاء والاختبار، وليس منطلقًا للتمييز أو الاستعلاء، بل دافعٌ لتحمل المسؤولية وتحقيق العدالة.
الفرع الثاني: القيم التي تحكم الانتاج في الاقتصاد الاسلامي:
الإنتاج ليس هدفًا ماديًا في ذاته، بل هو ترجمة لمبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض, يقول الشهيد الصدر: “إن الاقتصاد الإسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية الأخرى في ضرورة الاهتمام بالإنتاج، وبذل كل الأساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه، وتمكين الإنسان الخليفة على الأرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، ولكن الإسلام حينما يطرح تنمية الإنتاج كقضية يجب السعي اجتماعياً لتحقيقها، يضعها ضمن إطارها الحضاري الإنساني، ووفقاً للأهداف العامة لخلافة الإنسان على الأرض. ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافاً كبيراً. فالنظام الرأسمالي يعتبر تنمية الإنتاج هدفاً بذاتها، بينما الإسلام لا يرى تجميع الثروة هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لإيجاد الرخاء والرفاه، وتمكين العدالة الاجتماعية من أن تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس، وشرطاً من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الأرض وأهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد” .
أن عملية الإنتاج هى محصلة لتفاعل القوى البشرية في التعامل مع الموارد من خلال الجهد الإنساني الفعال الذي تحكمه مجموعة من القيم لتضبط حركته وتنظمها، وبالتالي فإنه يلزم لممارسة العملية الإنتاجية أربعة عناصر هى:
1- الموارد: وتمثل ما خلقه اللَّه عز وجل للإنسان على وجه الأرض.
2- القدرة البشرية: وتتمثل في الامكانات العقلية والبدنية التى أودعها اللَّه للإنسان.
3- الجهد البشري: ويتمثل في تعامل القدرة البشرية مع الموارد.
4- القيم: وتتمثل في مجموعة الضوابط التى تنظم القدرة البشرية في تعاملها مع الموارد.
والعناصر الثلاثة الأخيرة يجمعها عنصر العمل والذي يعتبر العنصر الأهم في العملية الإنتاجية
ومن أبرز القيم التي تنظم فعل الإنتاج:
1. العمل والعمارة: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) .
الاستعمار هنا بمعنى "الطلب من الإنسان أن يعمر الأرض"؛ فالإنتاج جزء من مهمة الإنسان الوجودية .
قال الإمام على (عليه السلام): «ما عمرت البلاد يمثل العدل " , ، وتمنحنا الرواية قانوناً اقتصادياً - حقوقياً بامتياز، إذ اضطلعت بعقد الصلة بين ظاهرتين إحداهما اقتصادية، والأخرى حقوقية - اجتماعية سياسية ، وهي قاعدة علمية نظراً لأن الإطلاق ينصرف إلى أكمل الأفراد، على رأي المحقق العراقي وبعض آخر؛ لأنه نال على صرف الطبيعة غير المشوبة التي لا تكون إلا في الأكمل، أو يقال : إن المطلق يعمه، أي أكمل الأفراد، وغيره، فهو على درجات والإطلاق يشملها جميعاً، فتكون حياة الأرض بحسب درجات العدل، ويكون موتها بحسب دركات الظلم والجور.
2. الإتقان والإحسان, (صنع الله الذي أتقن كل شيء) , وقد ورد في الحديث: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" (رواه البيهقي), إن الاقتداء بصفات الله تعالى من المفاهيم التربوية والأخلاقية العميقة في الفكر الإسلامي، ويُعدّ من الأسس التي يبني المسلم بها شخصيته الإيمانية، ومن الوسائل التي تُرقي سلوكه في مراتب الكمال الإنساني.
3. العدالة ومنع تركّز الثروة, كما أكده قوله تعالى: (كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم) .
فالقرآن يؤكد على إعادة توزيع الثروة بما يضمن التوازن المجتمعي ويمنع الاحتكار والهيمنة الاقتصادية.
الفرع الثالث: التوازن بين الاستهلاك والإنتاج لبناء الاقتدار الاقتصادي
إن العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج علاقة جدلية، ولا يمكن للاقتصاد أن يزدهر أو يستقل إذا اختل أحد الطرفين. ومن منظور قرآني، تتحقق القدرة الاقتصادية للأمة عبر:
1. ترشيد الاستهلاك
الابتعاد عن ثقافة الاستهلاك الزائد التي تستنزف الموارد وتدمر الإنتاج المحلي.
2. دعم الإنتاج الوطني وتحقيق الكفاية الذاتية, وله (عليه السلام) في أول العهد : استصلاح أهلها وعمارة بلادها، فإن عمارة بلادها، يزيد من الطاقة الإنتاجية، و«استصلاح أهلها، يكون بزيادة نسبة التشغيل وبزيادة الطلب الكلي، والطلب الكلي هو الذي طرحه كينز باعتبار كون الاستثمار أكبر محفز له، لكنه أهمل دوره باعتباره مما يزيد من الطاقة الإنتاجية، وعبارة الإمام (عليه السلام) السابقة بجزئيها تشمل ذلك كله كما ظهر، فيشمل كلامه (عليه السلام) الأمدين القصير والطويل ، عكس كينز الذي قصر نظره وتحليله على الفترة القصيرة فأهمل الطاقة الإنتاجية.
وبعبارة أخرى : إن قوله : «استصلاح أهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا، يستبطن تحفيز الطلب الإجمالي على السلع والخدمات في حالات الركود الاقتصادي والاستهلاك الخاص المنخفض أو الاستثمار المنخفض، وذلك بما يزيد في الإنفاق العام الذي يكون بمقدور الحكومة التأثير عليه عبر السياسة المالية التوسعية التي بها يتم استصلاح أهْلِهَا، عبر زيادة نسبة التشغيل وخفض البطالة إثر زيادة الطلب كما يتم بها عِمَارَةَ بِلَادِها، عبر زيادة الاستثمار في البنية التحتية والزراعة وغيرها.
القرآن يدعو إلى العمل والإنتاج المحلي المقرون بالإتقان والنية الصالحة، وهذا يتطلب سياسات تعليمية وتشريعية تدعم ذلك.
3. ربط الاقتصاد بالقيم الأخلاقية
لا يمكن فصل الاقتصاد عن منظومة القيم. فكل إنتاج أو استهلاك لا يخضع للضوابط الأخلاقية هو مشروع فشل طويل الأمد، حتى وإن نجح مؤقتًا. وهذا ما يميز النموذج القرآني عن النماذج الرأسمالية أو المادية.
يُقدم القرآن الكريم تصورًا فريدًا لبناء القوة الاقتصادية، يقوم على تحقيق التوازن بين الاستهلاك والإنتاج، ضمن إطار قيمي يعزز من العدالة، والكفاية، والاستقلال, ويكمن التحدي المعاصر في تحويل هذا التصور القيمي إلى نماذج وسياسات عملية تُفعّل في حياتنا الاقتصادية والتعليمية، بما يضمن للأمة اقتدارها وحريتها.
مسئولية الدولة: أن دور الدولة في عملية الإنتاج أمر استراتيجي وهام لما تملكه من امكانيات كبيرة وقدرة على التأثير في النشاط الاقتصادي القومي ومسئولية الدولة تتحدد هنا اجمالا في الآتي:
1- القيام بتوفير القواعد الأساسية من المرافق العامة اللازمة لعملية الإنتاج وذلك واجب أساسي ركز عليه المفكرون المسلمون مثل ما جاء في كتاب الإمام على بن أبى طالب إلى عامله على مصر الأشتر النخعي "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لايدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا"( ).
2- تشجيع الانتاج : فقد دعا القرآن الكريم إلى الانتاج حيث جاء فيه التأكيد على السعي، وأن الإنسان سيرى نتيجة سعيه. وعلى مسار القرآن الكريم جاء تأكيد قادة الإسلام على الانتاج وأهميته، فهذا أمير المؤمنين يدعو المسلمين كافة إلى العمل والانتاج. لا يدرك الحق إلا بالجده ويقول أيضاً : والحرفة مع العفة، خير من الغنى مع الفجور ويقول أيضاً : لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان .
ولا يكتفي الإمام بدعوة المسلمين، بل يدعو ولاته إلى انتهاج هذا الطريق، فيقول لواليه على مصر مالك الأشتر :
وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج)
فالأولوية يجب أن تُعطى للانتاج، وعلى الدولة الإسلامية أن تؤمن مواردها من الانتاج قبل الضرائب التي تضعها على المنتجين لأنه من طلب الخراج بغير عمارة خرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً.
مسئولية الأفراد عن الإنتاج: أن مسئولية الأفراد الذين يسر اللَّه لهم سبل امتلاك الموارد والقدرة البشرية (المال والعمل) عن الإنتاج مسئولية دينية لما سبق قوله من أن الواجب على المسلمين إعمار الأرض ومن أن العمل المنتج في طلب الحلال يعتبر عباده للَّه عز وجل ولأن المال في يد الأفراد أمانة لأن اللَّه هو المالك الحقيقي له ومن واجب الأمين أو المستخلف أن يعمل وفق إرادة المالك الأصلي والمالك الأصلي أمرنا باعمار الأرض، وإذا كان الفلاسفة يقولون أنه يلزم أن تقترن المسئولية بالمحاسبة على أدائها فها هو الرسول  يؤكد أن الإنسان يسأل عما منحه اللَّه من موارد وقدرة بشرية في قوله الجامع "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين أكتسبه وفيما انفقه؟ وعن عمله ماذا عمل فيه؟( )
خاتمة:

المصادر والمراجع:
• أبو يوسف, بو يوسف يعقوب. الخراج, المطبعة السلفية, القاهرة, 1346 [1927]
• ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير, الدار التونسية للنشر, 2007.
• ابن منظور, محمد بن مكرم, لسان العرب, دار المعارف, القاهرة , 1919.
• الشريف الرضي، محمد الحسين, نهج البلاغة, ط مؤسسة الرافد, 2010
• السبهاني، عبد الجبار. الاقتصاد الإسلامي: الاستهلاك. موقع شخصي.
• الصدر، محمد باقر. الإسلام يقود الحياة, وزارة الارشاد, ط2, طهران,
• الطباطبائي، السيد محمد حسين, الميرزان في تفسير القرآن, طبعة اسماعليان.
• الطبري, محمد بن جرير بن يزيد. جامع البيان في تأويل آي القرآن, ط1, الرسالة , 1994
• الغزالي، عبد الحميد. الاقتصاد الإسلامي: مبادئه، أهدافه، أدواته, الناشر: البنك الإسلامي للتنمية / المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة, سنة النشر: 1994
• القرطبي, أبو عبد الله محمد بن أحمد, الجامع لأحكام القرآن, مؤسسة الرسالة, ط1, 2006.
• كينيدي، بول. صعود وسقوط القوى العظمى, الاهلية للنشر والتوزيع, ط3, 2007
• اللحياني، سعد بن حمدان. مبادئ الاقتصاد الإسلامي, موقع جامعة أم القرى,
• الماوردي, أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري, الأحكام السلطانية. مطبعة مصطفى الحلبي، 1973.
• المرتضى الشيرازي. التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي (ع)., موقع مؤسسة التقى الثقافية.
• المنذري, عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، أبو محمد، زكي الدين,الترغيب والترهيب من الحديث الشريف, ط1, دار الكتب العلمية, بيروت
• الموسوي، محسن باقر. الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة, ط1, دار الهادي, 2002
• مكارم الشيرازي، ناصر. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل, مؤسسة الاعلمي للمطبوعات.
• محمد عبد الحليم عمر. المنهج الإسلامي في الإنتاج. منشور على الويب.
• محمد الريشهري. ميزان الحكمة, مكتب الاعلام الاسلامي, قم, 1362هـ
• محمد دويدار, مبادئ الاقتصاد, دار المعرفة الجامعية, الاسكندرية : دار المعرفة الجامعية ، 1996.
• ناي، جوزيف. القوة الناعمة: الوسيلة لتحقيق النجاح في السياسة العالمية, ط1, السعودية, 2004.