*الامن الفكري وحرية الفكر، قراءة في التوازنات* ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي
ملخص
تم تناول الامن الفكري في دراسات واسعة وكثيرة, وهنا نحن بصدد الملاحظة على مفهوم الامن الفكري في إطار ضرورة ان تكون عناصر المفهوم ذات ابعاد انسانية, تركز على حفظ النظام العام وسلامة المجتمع من الأفكار الهدامة التي تهدد سلمه وتماسكه, على خلاف الرؤية المتشددة التي تخلط بين الامن الفكري من جهة, وتطبيق الشريعة الاسلامية بنحو ملزم من جهة أخرى, وتم عقد مقاربات مع الرؤية المقاصدية من خلال كون الأمن الفكري يتوافق مع حفظ العقل أكثر من توافقه مع حفظ الدين, إذ أن الأخير له وسائله الأخرى في غير مجال الأمن الفكري, ومن ناحية توافق الأمن الفكري مع الحرية الفكرية فإن عدم التعارض يكمن في ملاحظة موضوع كل منهما, إذ يركز الأمن الفكري على الجماعة أكثر منه على الفرد, في حين تضمن حرية الفكر حق الفرد في التفكير والتعبير عن آراءه ما دام لا يؤثر على النظام العام, لأن الأمن الفكري أحد وظائف الدولة دينية كانت أم مدنية, ومن مخاطر الأمن الفكري هو توظيفه الخاطئ من قبل الجماعات المتطرفة, إذ هو سلاح ذو حدين, ويمكن أن يتحقق الأمن الفكري من خلال توفر المعايير الموضوعية والتوازنات الإجرائية التي يمكن أن تثمر عن دراسات بحثية تشخيصية لكل مجتمع تبعا لخصوصياته الدينية والثقافية.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد يتناول مفهوم الأمن بنحو عام كثير من تفاصيل حياة الإنسان بدأ من الجانب العسكري والوسائل المادية وحتى الجانب الفكري والوسائل المعنوية والأسباب والمسببات التي تؤثر على النظام العام للمجتمع بهذه الورقة البحثية سيتم تناول إشكالية الأمن الفكري من ناحية نطاقه ومحدداته ومدى توافق فلسفة الأمن الفكري مع حرية الفكر والتعبير عن الرأي وفق معطيات متعددة من الاتجاهات الدينية والفكرية المختلفة.
يشهد العالم المعاصر ارتباكاً متعدد الاتجاهات يرجع في اغلبه إلى التنوع الفكري والثقافي والأيديولوجي الذي يهيمن على الشعوب والمجتمعات, وتحكم السياسات والنظم كثيراً من الاتجاهات الأيديولوجية الدينية بشتى أمزجتها الفكرية والعقدية بنحو بالغ, ويؤثر الدين والمعتقد على السياسات واتجاهات الحكم وسبل إصدار القرارات المصيرية للأمم, لذلك فإن ظهور تلك التوجهات الفكرية بين الإفراط التفريط تمثل منعطفا خطيرا في مجال المخاطر التي تواجه الأمم والشعوب.
ويهدف البحث إلى الكشف عن مفهوم الأمن الفكري من خلال ملاحظة معطيات الواقع الراهن كذلك يهدف إلى الكشف عن الوسائل والأدوات اللازمة لذلك والكشف عن مدى التوافق واختلاف بين الأمن الفكري من جهة وحرية الفكر من جهة أخرى.
لذا سيكون منهج البحث متضمنا مدخلا يتناول الإطار النظري للبحث وطبيعه الإشكالات ومباحث يتناول الأول منها ضرورة الأمن الفكري ومدياته ويتناول الثاني منها الأمن الفكري وحرية الفكر وسبل تحقيق التوازن بينهما ويتناول الثالث منهما مخاطر توظيف الأمن الفكري بنحو خاطئ.
مدخل
أحيانا تنمو أفكار وتتطور الى الدرجة التي تهدد كيان المجتمع وهويته الثقافية ومستقبله السياسي كل ذلك يجعلنا أمام أمر واقع يتلخص في ضرورة وجود أمن فكري لمختلف ما يطرح من أفكار وثقافات، وبإمكان هذه الضرورة أن تحد من مخاطر التطرف الفكري وما ينتج عنه من عنف، وقد ذهبت عدة دول إلى تطبيق سياسة الأمن الفكري وفرض الرقابة على الأفكار وما يطرح في الفضاء الثقافي المرئي والمقروء والمسموع بحيث يتم تحصين المجتمع من أية أفكارها هدامة تمس الأمن القومي ودين الدولة الرسمي وما عليه المجتمع من مبادئ وتقاليد محترمة, لكن هذه السياسة لا تخلو من إشكاليات بنيوية ومنهجية, فاما المنهجية فهي ما تتصل باشكالية الموازنة بين الحرية الفكرية من جهة والأمن الفكري من جهة أخرى, وأما البنيوية فهي ما تتصل بمادة ومحتوى التقيد ببعض الأفكار إذ تم توظيف ذلك في مشكلة التشدد السلفي وتوظيفه المفرط لأدبيات الأمن الفكري باتجاه فرض آرائه ومتىباته الفكرية على مختلف فئات المجتمع.
وفيما يتعلق بمفهوم الامن الفكري, “الأمن الفكري هو اطمئنان الفرد على سلامة فكره، وصحة عقيدته، وخلوّه من الانحرافات الفكرية التي تخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة , كما جاء تعريف آخر بأن الأمن الفكري هو تحقيق حالة من الثبات والطمأنينة الفكرية للمجتمع، تحميه من الغزو الفكري والانحراف عن المبادئ الإسلامية , إن تعريف الأمن الفكري بمفرده تعبر عن اطمئنان الفرد وسلامة فكره وصحة عقيدته وتقييد هذا التعريف بما يخالف العقيدة الصحيحة ربما لا يعبر تماما عن المفهوم الذي ينبغي أن يكون عليه الأمن الفكري وهذه الملاحظة على التعريفين, والأفضل أن تكون النظرة والأول الأولوية لا أهمية اطمئنان الإنسان والمجتمع بالدرجة الأولى لأن المجتمع بصفته المجموعية لابد من حفظ كيانه ونظامه العام وحمايته من أي أفكار تربط نسيجه وسلمه الداخلي.
هناك من يطلق مصطلح التحصين الفكري وهو ما يشير إلى جانب من الوقاية أكثر منه إلى مفهوم العلاج والإجراء , في حين ان المفهوم يختزل الدلالتين في مدياته الاجرائية.
الامن الفكري يضمن الايمان من جهة ويراقب الدعوة والتبني لقضايا الايمان وملازماته من جهة اخرى الامن الفكري يحفظ الدين ام يحفظ العقل؟ وفق القراءة السلفية فإن الأمن الفكري يحفظ الدين, في حين القراءة المعتدلة لاحظت أن وسائل حفظ الدين متوفرة في مجال مغاير لمجال الأمن الفكري, وأن الأمن الفكري يهتم بفكر الإنسان, لذلك فهو مهتم بحفظ العقل.
ويمكن القول أن الأمن الفكري هو مجموعة الوسائل الرقابية التي تضمن تماسك المجتمع على مستوى الهويات الثقافية والعقديه تجنبا لأي إخلال بالنظام العام.
لأن الذي يقابل الأمن الفكري هو الفوضى الفكرية والأفكار العبثية, ولذي يحقق الامن الفكري, هو التوازنات والمعايير, التوازنات على مستوى إدارة المنظومة المعرفية, والمعايير على مستوى مرجعيتها لتلك الإدارة.
ومن المشكلات المحورية في مفهوم الامن الفكري انه جاء في سياق دعوي وقيام الأمارة الاسلامية من خلال الجهاد كما بين تلك المخاطر أحد الباحثين المعاصرين.
لذا كان من الضروري إدراك خطورة التوظيف, والخلط الذي يحصل بين الامن الفكري, وضرورة تطبيق الشريعة وفق ايديولجيات خاصة.
والحرية الفكرية من جهة أخرى, لم نتناول تعريفاتها, لكثرة تناولها وتداولها, ويكفي أن نستند إلى المرتكز الذهني العام الذي يتيح ربطها بحيثيات الأمن الفكري, وما يستتبعه من وسائل إجرائية.
المبحث الأول: الامن الفكري وحرية الفكر:
لا شك في ضرورة الحرية الفكرية في مختلف الثقافات الدينية والوضعية, ولكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة , وإشكالية الأمن الفكري والحرية الفكرية تمثل تحديًا معقدًا في المجتمعات، حيث يُسعى لتحقيق توازن بين حماية المجتمع من الأفكار الضارة والمتطرفة، وبين احترام حقوق الأفراد في التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية. وتكمن الإشكالية في الفقرات:
1. التداخل بين الأمن الفكري وحرية الفكر: الأمن الفكري يهدف إلى حماية المجتمع من الأفكار التي قد تهدد استقراره أو تدفع إلى التطرف، بينما الحرية الفكرية تمنح الأفراد الحق في التفكير والتعبير عن آرائهم, ومع ذلك، قد يتعارض ذلك أحيانًا، إذ يمكن أن يُنظر إلى بعض الأفكار الجديدة على أنها تهديد للأمن الفكري، ما يثير تساؤلات حول حدود الحرية, وهذا التداخل لا بد أن تحدده أطر واضحة, أهمها أن الأمن الفكري من أولوياته استهداف الجماعة, وأن الحرية الفكرية من أولوياتها استهداف الفرد, وهنا تخف وطأة التعارض.
2. حدود التعبير والمسؤولية الفكرية: من أهم التحديات في هذا السياق هو وضع حدود واضحة للحرية الفكرية، بحيث لا تمس أمن المجتمع وسلامته, فالتعبير عن الأفكار يجب أن يكون مصحوبًا بالمسؤولية، بمعنى ألا تؤدي هذه الأفكار إلى إثارة العنف أو الكراهية أو الإضرار بالآخرين.
3. الخوف من الرقابة والقمع الفكري: قد يُوظف الأمن الفكري كذريعة للحد من الحرية الفكرية وممارسة الرقابة أو القمع على الآراء التي لا تتماشى مع التوجهات السائدة، مما يؤدي إلى تقييد الفكر الإبداعي والنقد البناء، ويُعتبر ذلك خطرًا على تطور المجتمع, وهذا واضح في التوظيفات السلفية المتشددة في وسائل الأمن الفكري, فغالبا ما يربطون بينها وبين (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو مجال مغاير تماما .
4. إشكالية تحديد “الأفكار الهدامة”: من الصعب أحيانًا تحديد ما إذا كانت الأفكار فعلاً هدامة أو مجرد وجهة نظر مختلفة، فالتفرقة بين الفكر المتطرف الضار والتعبير الفكري العادي قد تكون ضبابية. لذا، يعد هذا تحديًا للمجتمع في تحديد المعايير التي يتم من خلالها تقييم الأفكار, ويمارس الفكر السلفي المتشدد توظيف حادا للأمن الفكري من خلال مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتكفير وإخراج الناس عن الملة تحت إطار الأمن الفكري, ويتعسف في تحديد الأفكار الهدامة .
5. الموازنة بين الانفتاح الفكري والحفاظ على الهوية: في عصر العولمة والانفتاح المعلوماتي، تتدفق الأفكار المختلفة من مصادر متعددة، مما قد يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية والدينية للمجتمع.
ويكمن التحدي هنا في تعزيز الانفتاح على الأفكار مع الحفاظ على خصوصية الهوية الثقافية,, لذلك دعت الحاجة إلى تعزيز الوعي الفكري والتربية السليمة لمواجهة التحديات الفكرية بنحو متوازن، فينبغي تعزيز وعي الأفراد ليكونوا قادرين على التمييز بين الأفكار البناءة والضارة, فالتعليم السليم والوعي الفكري يساعدان في توفير مناعة ضد الأفكار الهدامة، وفي نفس الوقت يُعززان احترام حرية التفكير.
سبل تحقيق التوازن:
يتطلب تحقيق التوازن بين الأمن الفكري والحرية الفكرية إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا يحمي حرية التعبير، ويضع في الوقت نفسه ضوابط لمنع إساءة استخدام هذه الحرية للإضرار بالمجتمع، بحيث تكون هذه الضوابط عادلة وموضوعية.
الامن الفكري موضوعه المجتمع والجماعة والنظام العام, وليس الفرد, لذا من الممكن هنا عقد المواصلة بين حرية الفكر التي يتم ضمانها للأفراد بالدرجة الأولى, وتتم الرقابة الفكرية على الجماعات بالدرجة الأولى, أي أنه من أولويات الأمن الفكري هو الجماعة للفرد، من أولويات الحرية الفكرية هو حرية الفرد في اختيار ما يقتنع به من أفكار دينية أو غير دينية, لذلك يمكن التأكيد على:
1- تعزيز وعي الأفراد بقيمة حرية الفكر ومسؤولية التعبير, ويمثل القانون الضمان الأول لخلق التوازن, من خلال قوانين عادلة تحمي المجتمع من الأفكار المتطرفة دون التضييق على حرية الفكر, كذلك ترسيخ مبدأ الحوار المفتوح حول القضايا الفكرية والاختلافات في الرأي، بحيث يمكن للأفراد التعبير بحرية مع الحفاظ على السلامة الفكرية للمجتمع.
2- تطوير نظام تعليمي يركز على الفكر النقدي، بحيث يستطيع الأفراد مناقشة الأفكار بموضوعية دون الانجرار نحو التطرف, بتحقيق هذا التوازن، يمكن بناء مجتمع يحترم حرية الفكر ويصون في الوقت نفسه أمنه واستقراره .
4. تشجيع الحوار البناء بين الأفراد والجماعات: الحوار المفتوح حول القضايا الفكرية والدينية يخفف من مخاوف سوء الفهم أو التطرف, ويمكن للمجتمعات إقامة ندوات ومنصات للنقاش الحر بحيث يتمكن الأفراد من التعبير عن آرائهم وتبادل الأفكار في أجواء منفتحة وآمنة, وللحوار المفتوح أهمية كبيرة كوسيلة لتعزيز الأمن الفكري، إذ يسمح بتبادل الآراء والأفكار بحرية، مما يساهم في بناء فكر متوازن ومستنير .
لذلك يعد الحوار العلمي من خلال قيم الاجتهاد التي أكد عليها كثير من الفقهاء المسلمين, كما ذكر السيد جواد العاملي في مفتاح الكرامة ما معناه: الاجتهاد أساس بناء الفكر الاسلامي الصحيح) وهو ما يدل على ضرورة منح العقل بعض الصلاحيات في تنقيح المفاهيم وفهم النصوص بما يعزز حالة صحية على مستوى التفكير العلمي.
5. التركيز على الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة: الشراكة في قيم العدالة، والأخلاق، واحترام الآخرين يمكن أن تكون أساسًا للتماسك الاجتماعي، مما يعزز مناعة المجتمع ضد الأفكار المتطرفة ويحمي الأمن الفكري دون المساس بحرية الأفراد, إن تعزيز مبدأ الوسطية في الدين يؤدي إلى فكر متوازن مبني على العقيدة الصحيحة، مما يساهم في تحقيق الأمن الفكري دون المساس بحرية الفكر , الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا” ، وهذه الوسطية تعني البعد عن الإفراط والتفريط، وتجنب التشدد أو التهاون في الدين.
6. تفعيل دور المؤسسات الدينية والفكرية: المؤسسات الدينية والثقافية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في التوعية بأهمية التوازن بين حرية الفكر والأمن الفكري، وتوجيه الأفراد نحو فهم سليم للعقائد والمعتقدات بشكل يمنع التطرف ويشجع على التفكير العلمي الموضوعي.
7. توعية المجتمع بمخاطر الفكر المتطرف: تعزيز الوعي بمخاطر الأفكار التي تدعو للعنف أو التعصب يمكن أن يكون أداة فعالة لحماية الأمن الفكري, من خلال برامج توعوية وتثقيفية، يمكن توجيه الأفراد نحو فهم أعمق لقضايا حرية الفكر وعلاقتها بالاستقرار المجتمعي.
8- تعميق وعي التعايش السلمي وتقبل الآخر من خلال الإعلام, الذي يمكن أن يقوم بدوره في تعزيز قيم التسامح وتقبل الآراء المختلفة، وأن يبتعد عن إثارة القضايا الخلافية بشكل قد يؤدي إلى التوتر أو التشدد .
ويحدد بعض الباحثين , مراحل تحقيق الأمن الفكري على المستوى الاجرائي في أوساط التعليم من خلال مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى:
مرحلة الوقاية والتحصين من الانحراف الفكري من خلال تفعيل مؤسسات التنشئه الاجتماعية والمؤسسات التعليمية على مستوى النخب والكفاءة الإدارية والأكاديمية
المرحلة الثانية: مرحلة الحوار والمناقشه واستيعاب الشباب واحتواء الاختلافات, فقد لا تنجح جهود الوقاية في ضد الأفكار المنحرفة من الوصول إلى بعض الشباب وخاصة الجامعي سواء كان مصدر هذه الأفكار داخليًا أو خارجيًا, ثم لا تلبث هذه الأفكار أن تنتشر وتستقطب المزيد من الشباب, وتتوقف درجة انتشارها على مدى يقظة المسؤولين عن التعليم الجامعي بأهداف وغايات هذه الأفكار والتيارات, وذلك يستدعي تدخل أصحاب الفكر والرأي من المفكرين والباحثين للتصدي لهذه الأفكار ودحض مزاعمهم بالحجج والبراهين من خلال الحوار والمناقشة.
المرحلة الثالثة: المرحلة الثالثة من خلال التقييم والعلاج وفرز الأفكار المنحرفة وتقييم مخاطرها, ثم ينتقل العمل إلى مستوى آخر هو تقويم هذا الفكر وتصحيحه, ودور المؤسسات التربوية ومنها الجامعة يحتل مكانًا بارزًا في هذه المرحلة بمفكريها وأساتذتها بالحوار والمناقشة وتحليل ما يحمله هؤلاء من أفكار منحرفة, وتقييم مخاطرها وما قد يترتب من أعمال إجرامية.
المبحث الثالث: ضرورة الامن الفكري
تمثل عقيدة أي مجتمع جزءا هاما من هويته, ومن الأمور التي يسعى المجتمع إلى تأمينها هي أفكاره ومعتقداته وما يؤمن به, لذا فإن الأمن الفكري حق اجتماعي لأنه يرتبط ببنية المجتمع وتماسكه, ومهددات الأمن الفكري تارة تكون خارجية كما في الغزو الفكري والثقافي, وأخرى تكون داخلية, وهو ما يتم تناوله في هذه الورقة البحثية, والمهددات الداخلية على نوعين:
الأول: الفتن الطائفية والخلافات المذهبية, والتي تحدث غالبا بسبب عوامل سياسية.
الثاني: حدوث متغيرات في العقيدة وهذه تتخذ منحيين:
المنحى الأول: الذي يأخذ جانب التفريط العقدي, كما في الإلحاد واللادينية, بمعنى الانسلاخ عن العقيدة ومغادرة المعتقد.
المنحى الثاني: الذي يأخذ جانب الافراط العقدي, وهذا ما سيتم التركيز عليه في هذا المقال, وهو ما يمثل الانحراف العقدي, وربما لم يتضح الفرق بين الملحد والمنحرف عقديا أو ربما ينبغي تحديد الفارق بينهما..
الملحد ببساطة هو من انسلخ عن اي اعتقاد.. ولا يمكن ان يكون الملحد -حسب مفهوم الالحاد / انكار الخالق- انسانا معتقدا بالضرورة, بل هو انسان رافض لأصل فكرة الاعتقاد, ومنكر لوجود الإله الخالق, بينما يمكن تحديد المنحرف عقديا بكونه من يعتقد اعتقادا باطلا ومنحرفا, خارج على المألوف والمتفق عليه داخل الدين الواحد, فمهما تعددت واختلفت المذاهب والملل, فإن الاعتدال يقتضي الحكم عليها بالعقائد الاسلامية التي يتم الاعتراف بها نسبيا ولو على مستوى التعايش والتصالح الاجتماعي, إنما المشكلة في الاتجاهات الفكرية التي تطرأ على الواقع الديني على هيأة حركة أو مذهب بنحو يعد انحرافا عن المسار العام للفكر الديني, واطلاق صفة الانحراف على تلك الحركات الطارئة من شأنه أن يمثل فارقا عن الحركات التي تسعى إلى التجديد في الرؤية الدينية بنحو هادف وعلمي, فحتى لا يتم الخلط بين حركات التجديد الديني التي تظهر بنحو طبيعي في كل مرحلة زمنية, والتي تختلف بالتأكيد عن الحركات التي تنبثق عن قراءة شاذة أو استثنائية للفكر الديني لتنبثق عنها ديانة أو مذهب جديد, وأغلب تلك الحركات الدينية أو المذهبية الجديدة تعاني من التشدد في خطابها, وطرحها, بالنحو الذي يتيح لصاحبها أن يرى أحقية اعتقاده، من خلال إضفاء القدسية والحقانية على طرحه المشوه، مما يستتبع جملة من الخصائص :
أولا: يعتقد بصحة اعتقاده رغم مخالفته للاعتقاد الحق او للاعتقاد المتفق عليه نسبياً.
ثانيا: يقطع ببطلان الاعتقادات الحقة والصحيحة والمتفق عليها.
ثالثا: قد يؤدي خطابه الى معاداة بقية العقائد وربما يمارس العنف والاقصاء لمن يخالفه في المعتقد.
رابعا: يمارس اصحاب تلك الحركات التضليل والتجهيل لاتباع العقيدة الحقة بنشر أفكارهم من دون أسس علمية ذات أوصل مشتركة للحوار, فيكون منحى التشدد وتغليب المعتقد هو السائد على حساب بقية الاتجاهات الراسخة في المجتمع.
إذن يمكن التمييز بين ظهور تيارات فكرية تجديدية قائمة على البحث العلمي والتي تسعى إلى تجديد الرؤية والفهم لجانب أو جوانب عدة من الفكر الديني, وتيارات دينية أشبه بالغنوصية القائمة على ادعاء علاقة ما مع الغيب, أو ادعاء صدارة ما على حساب جموع علماء الدين في المجتمعات الدينية, وهي أشبه ما يمكن التعبير عنه بالطفرة العلمية التي تحصل بنحو مفاجئ وطارئ على الساحة العلمية في مجال علوم الدين.
الفرق بين الملحد والمنحرف عقدياً على مستوى الخطورة:
– ان الملحد قد لا يظهر إلحاده او يظهره على مستوى الجدال والنقاش ولو بنحو غير علمي في حين يحاول المنحرف عقائديا أن يظهر عقيدته ويفرضها على الآخر ولو بالقوة ويكون ذلك باسم الدين وتحت غطاء مشروع ومضلل في الوقت نفسه .
– في الغالب لا يجبرك الملحد على اعتناق فكرته.. في حين غالبا ما يلجأ المنحرف عقائديا الى فرض رأيه وإجبارك عليه.
– قد لا يتسبب الملحد بخلق فتن دينية في المجتمع بقدر ما يسببه المنحرف عقائديا من خلال عسكرة المجتمع وخلق الفتنة وتكريس حدة الخلاف الفكري والعقدي في داخل المجتمع الديني.
– من اليسير ان يهتدي الملحد مع توفر عوامل داخلية في نفسه من قبيل الفطرة السليمة او يبقى في حدود الحاده من دون ان يؤثر على استقرار المجتمع وأمنه الفكري فليس بالضرورة ان يكون الملحد مثلا متنكرا للقيم الاجتماعية والاخلاقية, في حين يهدد المنحرف عقائديا السلم الاجتماعي من خلال ما يبثه من افكار تسعى الى استقطاب وعي المجتمع من اجل اعتناق افكاره الجديدة, وهو ما يبدي العسر في تغيير قناعته العقدية.
ولسنا هنا بصدد التقليل أو التهوين من خطر الالحاد بقدر ما نحاول الفات النظر والانتباه الى جانب مهمل نوعا ما من خطر الانحراف العقدي الذي يظهر على هيأة حركات فكرية وعقائدية تربك الأمن الفكري والعقدي للمجتمع، وتدخل الافراد في صراعات دينية داخلية لا تقل خطراً عن جانب التفريط في العقيدة الذي يمثله موقف الالحاد.
إذن جانب الإفراط العقدي –إن صح التعبير- لا يقل خطرا عن جانب التفريط في العقيدة, ويأتي إطلاق (الإفراط العقدي) من ملاحظة الغلو في فكرة جزئية ما, أو في المبالغة في تقديس شخصية ما, أو التكثير في فكرة ما, وما شاكل ذلك من مظاهر الإفراط في الميل إلى مجال محدود وضيق من الفكر الديني أو النماذج الدينية.
لذا بات من الضروري العمل على تفعيل جانب الأمن الفكري والعقدي الذي يسهم في حفظ السلم المجتمعي، وعدم ترك الباب مفتوحاً أمام الأفكار التي تخرج المجتمع عن تماسكه العقدي وتدخله في صراعات تمس أمنه الثقافي.
كما يشير الى ذلك السيد محمد حسين الطباطبائي بقوله: (التفكر في الدين يجب ان يكون ضمن إطار الوحي وإلا أدى الى الانحراف) , مشيرا الى ضرورة وعي الثوابت والأطر التي تشكل معايير واضحة في الحكم على القضايا والأفكار.
إن مجتمعنا اليوم يتعرض الى تلك الانحرافات بنحو غير لافت ويسري ببطء وخفاء بين فئات اجتماعية بسيطة, وهو ما تمثل بظهور بعض التيارات المنحرفة باسم الدين والتي من غير الممكن التصريح ببعض منها، بل تكفي الاشارة الى بعض سماتها من قبيل ظهور من يدعي النبوة او المهدوية أو بعض الحركات التي تضرب مسلمات هامة في الاعتقاد الديني، واذ نسلّم ببعض الاختلافات المذهبية التي استقر المجتمع على استيعابها واحتوائها والتعايش معها على اساس التنوع العقدي والتعدد المذهبي, فظهور الجديد الطارئ يختلف بالطبع عن الموجود والمستقر سلفاً..
فثمة اختلافات سائغة من قبيل اختلاف الديني والعلماني واختلافات المذاهب والملل وهو أمر طبيعي غالبا ما يخضع لأخلاقيات الحوار والنقاش والمجتمع الراهن قادر نسبياً على تجاوز دوائر الاختلاف تلك بنحو لا يؤثر على الامن الفكري والثقافي، لكن المجتمع الراهن ربما لا يمكنه تجاوز الاختلافات الطارئة التي تظهر بنحو مفاجئ وبأقنعة دينية تعمل على بث روح العداء والفرقة بين افراد المجتمع.
إن موضوع الأمن الفكري ذو مديات واسعة وهامة تستدعي بحثا مستقلا, لكن قدر تعلقه بمفردتي الالحاد والانحراف العقدي هو ما تم التركيز عليه في هذه السطور, آملين أن يلقى الموضوع اهتماما بالغا من الجهات المعنية, من مؤسسات دولية أو اعلامية أو دينية.
خلاصة ونتائج
مما تقدم يمكن تقرير بعض الخلاصات والنتائج:
• إن الأمن الفكري ينطوي على شقين في مفهومه الأول هو التحصين والثاني هو الوسائل الإجرائية
• إن الأمن الفكري يتقاطع مع الحرية الفكرية عندما يتم استخدامه ضد الأفراد أو الأفكار الفردية بوصفه أسلوبا أو وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حين أن الأمن الفكري يستهدف الجماعات والإنساق الفكرية المعدة بنحو منظم له القابلية في إخلال النظام.
• من الناحية المقاصدية فإن الأمن الفكري من وجهة نظر سلفية متشدده يهدف إلى حفظ الدين ومن وجهة نظر عقلانية معتدلة يهدف إلى حفظ العقل والكيان الاجتماعي.
• يتم تحقيق التوازن بين مقتضيات الأمن الفكري والحرية الفكرية من خلال اكتشاف المعايير والوسائل الكفيلة لتحقيق ذلك التوازن.
• الأمن الفكري ذو السماء عمومية موضوعه الشأن العام وهو لا يقترب من الخصوصيات الفردية ما لم تكن لها أصداء في الشأن العام الإعلامي والتعليمي والاجتماعي.
• ضرورة وعي توازنات الخطاب الديني ومقتضيات الحرية الفكرية من خلال تعميق الصلة والاعتراف بالآخر المختلف على المستوى الفكري.
• ضروري وعي الثوابت المشتركة بين الأديان لتكون إطارا مرجعيا لتصنيف الموضوعات والقضايا التي تخضع للأمن الفكري.
• تتعاظم الجهود مشتركة بين الأفراد والمؤسسات في إرساء الأمن الفكري
هوامش البحث: