image

د. اسعد عبد الرزاق

باحث في الشأن الديني المعاصر / العراق / النجف الاشرف

المقالات

*من قيم الإسلام التاريخي الى إسلام القيم المطلقة* د.أسعد عبد الرزاق

الاسلام التاريخي: بسبب حالة التأزم التي يعيشها المسلمون بعد صدمة الحداثة تولد الحديث عن الاسلام التاريخي الذي يمثل الحالة المقابلة لمقتضيات التحديث، ويمكن الكشف عن بعض من مدلولات الاسلام التاريخي من خلال رصد نماذج بارزة للتجربة الاسلامية بصفة عامة، من حيث المجال الديني والسياسي والاجتماعي، وطبيعة القيم التي تشكلت بفعل عامل تاريخي بعيداً عن الاصل الوحياني للدين الاسلامي، ويمكن اطلاق مفردة (الاضافات) على كل ما ألصق أو ألحق بالدين، لتغدو إسلاما تاريخيا، وهي احدى مشكلات الأديان بنحو عام، والتي تكاد أن تفضي الى انتاج دين مغاير من خلال تحولات مفصلية يمر بها الفكر الديني مما يجعل من القيم -التي يفترض أن تكون هي الأخرى مطلقة- مخرجات لاحقة ومتفرعة عن رؤى بشرية حاولت أن تتصدر المشهد الفكري الديني من خلال قراءات عقدية أو فقهية أو حتى ثقافية وأدبية، حتى غدت تلك القراءات -وهي ضمن وضع تاريخي محدد- جزءاً وفرعا من الأصل، في حين كان ينبغي أن يتحقق الوعي بالأصل من جهة، والطارئ من جهة أخرى، على مدى التطورات والتحولات التاريخية، اذ يغلب أن يُلبس ابتكار او رؤية جديدة ثوب القداسة ومن ثم إحلاله محل الأصل على الرغم من كونه نتاجاً بشرياً طارئا له الظروف الخاصة المولدة له. لذا كان الاسلام التاريخي ما يعبر عن تراكم للرؤى التي تم توظيفها إما دينياً أو سياسياً لتأخذ مكانها في عمق وجود الفرد والمجتمع.. وتكتسب طابعاً دينياً أصيلاً، يجلّي مفردة الاسلام التاريخي. قيم الاسلام التاريخي إن قيم الاسلام التاريخي تابعة للوضع التاريخي لبعض إضافات الإسلام، من كونها قيماً متولدة عن قراءات ورؤى خاصة، وتمت أدلجتها سياسياً لتأخذ مداها الاجتماعي والديني، مما يتعسر لاحقاً اكتشافها وتحديدها من جهة، وحتى نقدها أو فصلها عن الأصل من جهة أخرى، ومن أمثلة ذلك ما استشرى لدى مختلف الاتجاهات والمذاهب من عقدة الكراهية للآخر المختلف أو المخالف، بحيث أصبحت تلك العقدة من صفات المتقين الذي باتوا يشعرون بالحرص على تلك الفرعيات التي أضيفت إلى الأصل أو حلت محله، فظهرت سلوكيات السب والازدراء مثلا على انها احدى القيم التي تميز الفرد المسلم، والاسلام منها براء. فمثلا آية السيف حسب قول بعض فقهاء الاسلام قد أبطلت حكم أكثر من مئة وعشرين آية أخرى تأمر المسلمين بالحكمة والرحمة والإحسان في علاقتهم بأهل الكتاب. فكان من نتائج هذه المقولة أن ظهرت جماعات الإسلام الداعشي التي ألحقت بالمسلمين والإسلام أضراراً فادحة، من أبسط صورها ظهور موجة إلحاد وتنصّر لم يشهد مثيلها العالم الإسلامي منذ ثمانين عاما على الأقل. لذا فإن الأخطر في تجليات العنف هو العنف الطائفي والعنف الأيديولوجي، إذ كثيرًا ما يتحول هذا العنف إلى ظاهرة اجتماعية، وإلى عنف له شرعة دامية تمارسه السلطة والجماعة، وتتبدى من خلال تضخمه وتغوّله، وكثرة ضحاياه الكثير من الهويات القاتلة، والهويات المقتولة، بسبب قيم الاسلام المفهوم فهماً تاريخياً. القيم المطلقة في حين ذابت القيم المطلقة في واقع الممارسة والتطبيق لتغدو مجرد شعارات توظف حين الحاجة فقط، على مستوى انتاج الايديولوجيات، أو تصغر تلك القيم وتؤطر في حدود ضيقة جاءت صنيعة العصبيات المذهبية أو غيرها من الاتجاهات التي تحصر الدين في زواياها الضيقة فحسب.. القيمة المطلقة قيمة اعتبارية قائمة بذاتها من خير وعدل وكل فضائل الأخلاق، ولم تكن ضمن أولويات الخطاب الاسلامي على مدى الاسلام التاريخي، بل كانت مجرد اطار عام وفضفاض ينظر له نظرة المسلمات المهملة، اذ يدرك الانسان كثير من المسلمات وفي ذات الوقت يهملها اذا لم تجلب له منفعة عاجلة او شخصية مثلا. وأزمة القيم مشكلة عامة تكاد تواجه أغلب المنظومات الفلسفية والفكرية فضلا عن الدينية، وبالأخص في عصرنا الراهن، وذلك بسبب مشكلات بنيوية تتعلق بتلك المنظومات من ناحية طبيعة تشكلها وبناءها والاسس التي تستند إليها، ومشكلات أخرى قد تكون طارئة أو خارج بنية تلك المنظومات. اسلام القيم المطلقة لذا كان من الجدير العودة الى إسلام القيم المطلقة، ذلك الاسلام الذي تجلّيه نصوص القرآن الكريم، اذ المشكلة ليست في تحريف النصوص كما حدث في الديانات السابقة بل المشكلة في تحريف الوعي، والفهم، والاستنتاج، والقيم المطلقة التي حث عليها الإسلام لم تكن غائبة على مستوى النص، بل على مستوى الممارسة والواقع، وفعل الثقافة هو ما ولد تلك المشكلة، أي تثقيف المفهوم الديني، وصياغة ثقافة قائمة على فهم يبتعد عن المحور ويلصق بالمساحات التي تعد على الهامش لا أكثر. ان تفعيل القيم المطلقة في الخطاب الديني الاسلامي يستدعي استحضار الكليات او المفاهيم والقواعد الكلية التي يمكن أن تمثل مرجعية عليا في إنضاج الخطاب الديني ضمن حدود القيم العليا، وهذا الاستحضار ليس من العسر بمكان سوى حاجته الى فعل ميداني واقعي على مستوى فهم النصوص الدينية وتوظيفها في تحقيق المقاصد الكلية للإسلام من خلال إرساء تلك القيم على كونها مرجعيات معرفية ثابتة، والتجرد عما سواها من زوايا حادة تفضي الى الإقصاء وتفتيت السلم المجتمعي، بهدف اثبات أن الاسلام دين يحث على تكريس القيم المطلقة التي تتمتع بعمومية وشمولية ومقبولية عامة.

*الفقه وثنائية الحق والتكليف.. مراجعة في ضوء إثارات العقل النقدي*  د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

*الفقه وثنائية الحق والتكليف.. مراجعة في ضوء إثارات العقل النقدي* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

بالنظر إلى ما يواجهه الفكر الديني عموما من نقد وشبهات يتجلى العقل النقدي في أعلى مراتبه عند موضوع القيمة الانسانية ومدى حضور الانسان في بنية التفكير الديني، عبر تتابع وجهات النظر الناقدة حول ما يعانيه مفهوم الإنسان من غياب في البنى الفكرية والمنهجية للعلوم الدينية، وضعف حضور واضمحلال أولوية المكاسب الإنسانية، بالنحو الذي أدى إلى ظهور مسوغات كثيرة للنقد معززة بثغرات ونقاط ضعف يعاني منها الخطاب الديني بنحو عام، والذي كان من أبرز أسبابه ضعف وسائل الخطاب والواصل بين الفكر الديني والعقل المثقف، وهو موضوع فيه من العمق والتفاصيل الجانبية بما لا يسعه حجم المقال. ومع التركيز على الجانب الفقهي الذي يتضمن الكثير من المضامين التي تمس واقع الإنسان المعاصرر يمكن تقرير أن العقل النقدي لم يغفل ما ينبني عليه الحكم الشرعي المستنبط من فلسفة التكليف التي تحكم مجمل منطلقات الفهم الفقهي للخطاب الشرعي، عبر الاستناد إلى مسلمة فقهية/أصولية مفادها أن الخطاب الشرعي غالبا ما يصدر بصيغة آمرة أو ناهية تفيد بالحث على القيام بالفعل أو تركه، بمعنى أن النصوص الدينية التي تتعلق بالأحكام هي النصوص التي تنطوي على أمر أو نهي وبالتالي فالتكليف هو النتيجة المنطقية لفسلفة الحكم الشرعي، في حين يدعو العقل النقدي إلى مراجعة هذه المسلّمة وفتح المساحات أمام النص الديني الذي يؤسس لمجموعة من الحقوق الإنسانية، ولو بدلالة الإشارة أو الملازمة بالشكل الذي يمكن معه فهم النص الديني في إطار قيمي حقوقي شامل للتكليف من حيث كونه يستبطن حقا من الحقوق، وعلى سبيل الإنصاف فإن العقل الفقهي لم يغفل هذا الاستبطان في أدبياته القريبة من واقع الممارسة الفقهية، لأن الأخيرة تخلو تماما من تلك الرؤية التي تأخذ الحقوق الإنسانية بعين الاعتبار لكن ذلك لا يعني انعدام تلك الرؤية، بل يمكن رصدها في الخطاب الديني بشكل كافٍ على مستوى كتب المواعظ والثقافة الدينية، وهو الذي لم يكن كافيا لدى العقل النقدي في قراءته للفقه بسبب تتبعه الدقيق والحاد بعض الشيء في قراءة المنتج الفقهي ومدى اشتماله على القيم ذات النزعة الإنسانية، فالذين يقدمون نقدهم حول المعرفة الفقهية لم يقرأوا الفقهاء إلا عبر رسائلهم العملية وبحوثهم الفقهية التخصصية مما أدى إلى اقتصار نقدهم على المنتج المعرفي المتخصص، وربما لا يكون كافيا أن نبرر للفقهاء خلو نتاجهم من مفهوم الحق الإنساني واقتصارهم على التكليف، لان مساحة الخطاب التي يشغلها الفقه تفوق مساحة الخطاب الديني العام الذي يشتمل على مفاهيم الحقوق الإنسانية. إن رسم العلاقة بين الدين والإنسان ليس بالأمر اليسير، ذلك أن للإنسان متطلباته وللدين متطلباته، وحتى مع القول باستبطان التكاليف الدينية للحقوق الإنسانية فإن ذلك لا يعد حلا حاسا لإشكالية الحقوق في التشريع الديني، لأننا أمام فرضين أساسيين لا ثالث لهما : إما أن نتصور أن العلاقة بين الإنسان والدين هي علاقة عبد مكلف من قبل خالقه الآمر والناهي بالدرجة الأولى، أو نتصور أن العلاقة بين الإنسان والدين هي علاقة إنسان له حقوق بخالق راعٍ ومدبر، ومع إمكان اجتماع الفرضين برغم اختلاف مصاديقهما فإن ذلك لا ينفي وجود سمة غالبة لأحد الفرضين، فإما أن تكون سمة التكليف والأمر هي الغالبة على الخطاب الديني (الفقهي) أو تكون سمة (الحق) هي الغالبة..، تلك السمة التي تكشف عن حجم مراعاة المتطلبات الإنسانية المتجددة مع الزمان والمكان، فالمراعاة المتصورة لم تكن شيئا منافيا لحقيقة الدين، بل نجد أن الذين يكتبون حول فلسفة الدين وضرورة وجود الأديان في حياة الإنسان يأكدورن مرارا وتكرارا على وجود تلك المراعاة للواقع الإنساني وكيف أن الدين جاء ليلبي متطلبات الإنسان، في حين يجانب الخطاب الفقهي تلك التأسيسات مجانبة قسرية بسبب المنطق الذي يحكم العقل الفقهي، ذلك المنطق الذي طالما طاله النقد، وهو المشكلة الأساس في نتاجات الخطاب الفقهي، في طريقة قراءته للنصوص التشريعية، فالمحور الذي يدور حوله الفقه اليوم لا يعدو كونه جدلية قائمة بين المكلَّف والمكلِّف لا أكثر، جدلية ثنائية تقتصر على ما يجوز وما لا يجوز، على الحلال والحرام، وهي ثنائية حادة، لا تستوعب أي طرف يتوسط بينها، ولا حد ثالث يضمن وجود المكلف وحقه في الحياة، لكنها ليست مشكلة عقيمة، بل يمكن تجاوازها عبر تفعيل أدوات حية للخطاب تستثمر وجود مساحات رحبة تكتنز أجلى قيم الإنسانية بالنحو الذي يتيح للفقه أن يستعين بخطاب مكمل له يقترب جدا من مجال فلسفة التشريع وبيان مقاصد الأحكام وغاياتها عبر التوسل بمصطلح (الحكمة من التشريع)، ومع أن أحكام الدين غير معللة في الغالب، فإن ذلك لا يمنع من تعزيز الحكم الفقهي بما يؤول إليه من جلب المصالح ودرء المفاسد، باتجاه تشكيل وعي تشريعي يمنع من تسرب الشبهات إلى الفطرة السليمة المودعة لدى الإنسان الملتزم بأحكام الدين. مضافا إلى ذلك فإن العقل النقدي ربما لا يستوعب وجود (مكلف) في الخطاب الفقهي، بل يدعو إلى وجود إنسان مسؤول تجاه ربه، وتجاه نفسه، وتجاه أخيه الإنسان، وتجاه البيئة التي تشتمل على موارد عيشه ومكتسبات وجوده، والمسؤولية تختلف عن التكليف في مدلولها اللفظي، فهي أخف وطأة من التكليف، لأن الأخير يكاد يخلو من قيمة الحرية، وهي المشكلة التي تستدعي تناولا مستقلا، ويشير التكليف إلى آلية المكلف، فالمكلف يقوم بما كلف به على نحو آلي، قريب من منطق إفعل ولا تناقش، في حين يقترب لفظ المسؤولية من مفهوم الحرية، لأن الحرية لاتكون مقبولة عقلا ما لم تكن حرية مسؤولة، والفعل المسؤول يشير إلى وجود صلاحية وكيان مستقل من قبل المسؤول وهو طالما سوف يسأل عما فعل لأنه كان حرا في فعله..

*الفقه والاخلاق.. مديات الاتصال والانفصال* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

*الفقه والاخلاق.. مديات الاتصال والانفصال* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

مدخل: يمكن افتراض أن المعرفة الفقهية تتحرك في نطاق بنى منهجية محددة متمثلة في علوم المنطق واللغة وأصول الفقه.. بمعنى أنها تخصصية إلى الحد الذي تنأى معه عن تناول المفاهيم المفتوحة على الثقافات والتصورات البشرية التي تتدفق بشكل مستمر وفق متغيرات الواقع، فالفقه غير معني بالنقد الثقافي أو بحوار الحضارات بل له مهمة محددة باستنباط الاحكام الشرعية، مع أن تلك الأحكام تؤدي فيما بعد إلى خلق نسق ثقافي اجتماعي، والنسق الاجتماعي كنتيجة حتمية لمنتجات المعرفة الفقهية هو ما يشكل الانعطاف العسير للمعرفة الفقهية، فالفقيه وهو يتحرى حكما شرعيا عبر قراءات متعددة ومكثفة للنص التشريعي ليس من شأنه –وفق السياقات المعرفية للاجتهاد- أن يقدم منظومة متكاملة، بل يقتصر على دلالات محددة يتم تعميمها على السلوك الفردي والاجتماعي بالنحو الذي يفضي إلى انتاج نسق غير متكامل، فحجم المجهود الذي يبذل في الفقه – معرفيا – أكبر منه في الذي يبذل في انتاج منظومة الأخلاق والقيم، مما يشير إلى انقطاع في المجال الذي يتصل فيه الفقه - كممارسة معرفية – بالأخلاق والقيم التي تكمل دور الفقه وتفعله في الحياة الإنسانية. لذا فإن مبررات النقد حول الفقه تنشأ عبر ذلك الانقطاع وفي المقابل لا يمتلك الفقه حصانة ذاتية للدفاع عن نفسه، فأدواته اجتهادية ذات طابع بشري تقبل النقد بطبيعتها، ومسوغات اللجوء إلى غير الفقه في الدفاع عن الفقه باتت حتمية، فيبدو الفقه عملية منفصلة عن منظومة الاعتقاد والعقائد، من ناحية الممارسة المعرفية، فمجال الفقه لا كمجال العقائد من حيث النشاط الذهني والمعرفي لكليهما، لكن الفقه في آخر المطاف ينتج نسقا ثقافيا يواجه الكثير من الاشكاليات والعقبات، لذا فعندما يوجه النقد للمخرجات الفقهية بعد أن تصبح نسقا ثقافيا واجتماعيا فإن استعدادات الإجابة تنطلق من المجال العقائدي، بمعنى أن ما يواجهه الفقه من شبهات يتم الرد عليها من خلال منظومة العقائد، ومعنى ذلك أن الدفاع عن الفقه يكون من خارج علم الفقه لأن علم الفقه ذا منحى تخصصي تأويلي خاص يُعنى بتفسير النص التشريعي، وليس أمام الفقيه سوى اللجوء إلى المضادات التي يقدمها علم العقائد والكلام، وهذا ربما يكون اجراء مناسبا وطبيعيا وفق طبيعة البنية المنهجية لكل من مجال الفقه والكلام، لكن ذلك لن يكون حاسما طالما يتم إغفال الأخلاق وعدم الاكتراث إلى مديات الاتصال فيما بينها والفقه. امكانية المفارقة بين الفقه والأخلاق من الناحية المنهجية قد يطرح التساؤل: هل الفقه معني بتحقيق القيم (من الناحية المنهجية)؟، ولتوضيح التساؤل يمكن تقرير أن سير التفكير الفقهي منضبط بمعايير علم الفقه، وهو مقتضى التخصص في العلوم، ومن الواضح أن علم الفقه غير علم الأخلاق، ولكل منهما منهجه ومسائله ومعاييره على الرغم من وجود العلاقة بينهما من ناحية حاكمية القيم على الفقه.. ويمكن تعزيز فرضية الاختلاف بما يقدمه القانون الوضعي من فروق بين القانون والأخلاق فالهدف من القاعدة القانونية هو استقرار النظام في المجتمع وتحقيق العدل والمساواة، وغايتها نفعية: أي نفع المجتمع وحفظه، أما الأخلاق فغايتها، أكثر من ذلك، مثالية تنزع بالفرد نحو الكمال، فهي تأمر بالخير وتنهي عن الشر، تحض على الفضائل وتوحي بالابتعاد عن الرذائل، وبالتالي فهي ترسم نموذجا للشخص الكامل على أساس ما يجب أن يكون، لا على أساس ما هو كائن بالفعل، لذلك فالأخلاق توجه أوامرها إلى ضمير الإنسان وتهدف تحقيق الأمن والسلام الداخلي، أما القانون فيراهن، أكثر ما يراهن، على تنظيم علاقة الأشخاص فيما بينهم، ويهدف إلى تحقيق الأمن والسلام الخارجي بما يشتمل عليه من أحكام تمنع الاعتداء على الغير، وكذا الحال بالنسبة للفقه فهو ينظم العلاقات فحسب ولا شأن له بالقيم.. وربما يتبلور التساؤل السابق إلى إشكال نقضي للفرضية التي تؤسس للمفارقة بين الفقه والقيم كذلك يؤدي إلى نقض الاشكاليات التي تشكك في توافق الفقه مع القيم، لكن اختلاف المنهج لا يمنع من رقابة أحدهما على الآخر، وكما هو واضح ومتفق عليه من ضرورة انسجام الفقه الاسلامي مع القيم الأخلاقية، وحاكمية القيم على الفقه، فالاختلاف في المنهج لا يؤدي إلى الاختلاف في النتائج، بمعنى أن اختلاف علم القيم /الأخلاق لا يخلق مبررا لاختلاف نتائج الأحكام الفقهية عن الاحكام الأخلاقية، وهو ما يتم التركيز عليه في البحث، فالحاكمية التي يتفق عليها الكثير كيف لها أن تتحقق؟ يبدي الأصوليون والفقهاء موقفهم النهائي من التساؤل الأخير بصدد حاكمية القيم على الفقه عبر عالم الثبوت بمعنى أن المشرع قد ضمن تحقق القيم من مرحلة الجعل (جعل الحكم) فلا داع لافتراض المفارقة بين القيم والفقه حتى على مستوى نتائج كل منهما، وذلك صحيح على صعيد النص الديني المؤسس للأحكام الشرعية، لكننا بصدد الفقه الذي هو عبارة عن ممارسة فهم للنص التشريعي تهدف إلى استنباط أحكام شرعية لم يصرح بها النص بشكل مباشر، كذلك تحدد تلك الممارسة الكثير من موضوعات الفقه التي تكون محل تفسير النص التشريعي، وبعبارة موجزة: النص التشريعي (الشريعة) غير الفقه (الفهم البشري) القائم على آليات الاجتهاد التي تعد آليات ظنية في الأغلب. ومع ملاحظة الفرق بين الشريعة والفقه لا يكفي انسجام الحكم الشرعي مع الحكم الأخلاقي في عالم الثبوت و(جعل الحكم)، بل تبدو ضرورة رصد الحاكمية في عالم الاثبات واستنباط الحكم من أدلته ومدى اعتبار تحقق القيم في نتائج الاستنباط. إن اختلاف مجال الفقه عن مجال القيم والأخلاق لا يبرر غياب الاعتبارات الأخلاقية من عمق العملية الاجتهادية في الفقه، فكما لم يغب علم المنطق وعلم اللغة من آليات الاستنباط الفقهي كذلك ينبغي حضور القيم الأخلاقية في تفاصيل عملية الاجتهاد الفقهي، والسبب هو أن الشبهات المطروحة حول الفقه لا علاقة لها بآليات الاجتهاد وكيفية استنباط الحكم من أدلته، بل لها علاقة بالنتائج والمخرجات، فلا ينبغي إغفال النسق الثقافي والاجتماعي الذي ينتجه الفقه، ذلك النسق الذي يتشكل عبر مجموعة أفعال وسلوكيات منتظمة تحت شريعة ناظمة وحاكمة ويصبح هوية ثقافية، فالحجاب مثلا يعد عنصر من عناصر تلك الهوية أو ذلك النسق، يشكل أيقونة بارزة له، والشبهة التي تطرح ليس من شأنها أدلة الحجاب بقدر ما تحاجج الغاية منه، متسلحة بمفاهيم جديدة وملحة ومفروضة على الواقع بشكل صادم. إذن أزمة القيم المفترضة مرصودة في نتائج علم الفقه أي في مجموعة الأحكام التي ينتهي إليها الفقهاء، تلك الأحكام التي تبني كيانا اجتماعيا له خصائصه وفوارقه التي تميزه عن غيره، وهذا ملحظ هام في إطار الكشف عن جدلية الفقه والقيم، وبوسعي القول أن الجهد الذي يتم بذله في استنباط الأحكام الشرعية يستدعي جهدا آخر يعمل على تبرير تلك الأحكام وهي تمثل واقعا اجتماعيا ونسقا ثقافيا يواجه كما هائلا من النقد، والتبرير ليس منقصة وإنما يكون في إطار الحوار العلمي الموضوعي الذي يكشف عن عقلانية الفقه عبر استثمار الخزين الثقافي ضمن مفاهيم فلسفة التشريع التي بذل المفكرون المعتدلون جهدا كبيرا في إبرازها ونشرها. مدى حضور الاخلاق في المعرفة الفقهية من الواضح ان المعرفة الفقهية تنطلق من نصوص دينية مؤسسة، تتضمن مضامين أخلاقية، بالنحو الذي يكرس أولوية الأخلاق في عموم الخطاب الديني، ولم يعنى القرآن الكريم وهو -النص المؤسس الاول- بالأحكام والتشريعات كما هو الحال في عنايته بالقيم والاخلاق التي تحتل مساحة كبيرة في مدلول النص للقرآن الكريم، بعد وضوح أن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية، وفي ذلك مدلولان: الأول: أن التشريعات والأحكام على وفق المعيار الكمي لم تكن لها الأولوية في الرؤية القرآنية في حين يتضح الحضور اللافت إلى القيم المستوحاة من القصص القرآني، وهو ما يحيل إلى مراجعة ضمور التشريع في النص الكلي (القرآن) وحضوره في النص التفصيلي الجزئي (السنة) ومن ثم محاولة الاجابة عن مدى إمكانية حسم الموقف من مسألة المطلق والزمني في التشريعات والأحكام، ومناقشة فرضية تغير الشرائع من ناحية صحة الفرضية وعدمها. الثاني: أن القرآن الكريم بما يتضمنه من قيم ومبادئ كلية يمكن أن يمثل مرجعية مطلقة لقراءة السنة ضمن عملية استنباط الأحكام الشرعية عن الأحاديث.. وحتى الأحاديث بدورها أسست لجانب كبير من القيم والأخلاق بالشكل الذي يغلب أو يساوي ما ورد من أحاديث الأحكام. ومع وضوح الغلبة والأكثرية للمدلول القيمي على المدلول التشريعي، تثار عدة تساؤلات هامة حول ضعف حضور القيم الأخلاقية في ماكنة التفكير الفقهي، من جهة، ومن جهة أخرى تحيل تلك الأكثرية إلى تساؤل هام حول إمكانية البحث في المحدودية الزمانية للشرائع في مقابل الاطلاقية الزمانية للقيم، بمعنى افتراض كون النصوص ذات المدلول القيمي مع أكثريها وغلبتها تكون هي المساحة الثابتة على خلاف النصوص ذات المدلول التشريعي مع قلتها تكون نسبية وزمنية ومتغيرة، وهو افتراض يقارب نظرية نسخ الشرائع بعضها لبعض، ويفارقها في كون الشريعة الإسلامية شريعة خاتمة، ويتجاوز خاتميتها واطلاقها الزماني إلى تقويضها اقتلاعها من الزمن الحاضر.. وهذا التساؤل عالق بين حساسية إبرازه وتعسر الإجابة عليه، فربما جاز البحث والتساؤل عن الثابت والمتغير داخل منظومة الاحكام وأمكن البحث في وجود أحكام ثابتة مطلقة وأخرى زمنية متغيرة حسب موضوعاتها، لن التساؤل والبحث عن إمكانية اعتبار كل التشريع ظرفا زمنيا ناقلا إلى مرحلة أخرى يكون للعقل صلاحيته المطلقة في التشريع. إن هذا التساؤل الخطير لا تتم الإجابة عليه من داخل الفقه، ولا من داخل الكلام، إنما يتم تناوله خارج أطر التفكير الديني وهو ما يُعنى به مجال فلسفة الدين، عبر تناول مدى خلود الشرائع في الأديان السماوية، وحدود مرجعية العقل في المعرفة التشريعية. لكن بالعودة إلى موضوع القيم الأخلاقية والالتزام بحدود البحث في التساؤل الأول حول إمكانية تفعيل مرجعية النصوص ذات المدلول القيمي على النصوص ذات المدلول التشريعي وهو مما توافرت له بعض القراءات المعاصرة التي تدعو إلى تحكيم مرجعية القرآن الكريم على السنة وإنقاذ المعرفة الدينية وبالأخص الفقهية من سلطة الحديث إلى حاكمية القرآن الكريم. يذكر الرفاعي أن: (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي)، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط. إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية. ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة.. هذا مثال بسيط عن الشكلانية التي طغت على التفكير الفقهي، وربما لم تكن تؤدي إلى نتائج خاطئة على الدوام لكنها في الوقت نفسه تنافي الواقع في الكثير من الأحيان. إذا ما أردنا طرح السؤال أعلاه على مخرجات الفقه الاسلامي، كيف ستكون الاجابة؟ ولكي يتضح بادئا السؤال، يمكن القول ان إثبات وجود قيم أخلاقية في الفقه الاسلامي، لابد أن يعتمد على وحدة قياس، ولابد من وجود معايير تحدد طبيعة الحكم الشرعي على مستوى انسجامه مع القيم، لذا يمكن افتراض مشروعية هذا التساؤل بالبحث عن تلك المعايير، فإذا كان الفقه ينتج أحكاما تعد مثارا لجدل من حيث تعسفها بحق بعض الفئات الاجتماعية مثلا (فقه المرأة مثلا).. كيف يمكن علاج تلك الاشكاليات؟ على أن الطعن في مشروعية تلك الاشكاليات غير كاف في حلها وهي مسألة مهمة على الصعيد العام، فغالبا ما يتم التشكيك في مشروعية الشبهة ومصدرها وهذا التشكيك غير كاف في إيقاف تأثير الشبهة في الأفق الثقافي والاجتماعي. جدل التعبد والواقع في الممارسة الفقهية في المعرفة الفقهية يستعمل لفظ التعبد بمعنى التكليف مثل قول بعضهم: نحن متعبدون بالنصوص، أي مكلفون بالأخذ منها، أو: نحن متعبدون بشرع من قبلنا أي مكلفون به، ويرد اللفظ ايضا بمعنى ما لا يعرف الا من قبل الشارع، اي ما يساوق التوقيفي، فالحكم غير المعلل الذي لم تتضح الغاية منه يكون تعبديا، والمعنى الذي يمكن ان نلاحظه هنا هو مدى الالتزام بالنص امام العقل، فالتعبد في أحد ابعاده يمثل الالتزام والحبس للدلالة في أثناء قراءة النص، مما ينتج قراءة تعبدية تتمثل بمركزية صارمة للنص من دون وعي ظروفه الزمانية، فالكثير من النصوص مطبوعة بطابع عصرها، لكن اشكالية العقل والنقل ساعدت على تنامي الموقف الذي يتحسس من عقلانية القراءة للنقل. لذا تمثل مفردة التعبد ايقونة بارزة وهامة وفاعلة في الحراك الديني، فهي تقضي بالأخذ عن المقدس والتسليم له على مستوى النظر والعمل، وهو ما يصطدم بشكل تلقائي مع ما يصبو إليه الحراك العقلي في طلبه للمعرفة، فالتعبد قيمة راسخة في العمق الوجودي للدين، وهو ما يخلق تابوهات تحدد من حرية التساؤل أمام الكثير من المبادئ الدينية، فهناك منطقة يمكن وصفها بالمحرمة لا يمكن تجاوزها من قبل العقل الانساني، مما تؤدي الى ظهور مركب يحمل في طيه عقلانية تدعو إلى رجوع الجاهل الى العالم تتمثل في مقولة التقليد من جهة ومن جهة أخرى يشكل المركب أيقونة تعبدية لا تسمح للمقلِّد من تجاوز المقلَّد في المعرفة والعمل على حد سواء، هذا المركب يستبطن ظاهرة تتجلى فيها جدلية العقل والتعبد، فالمكلف وفق العقل الفقهي يأخذ مساحة عقلانية تحت إطار الرجوع الى التخصص وذوي الخبرة كما هو مفاد مقولة التقليد، ويتقيد في الوقت نفسه بقدسية الرأي الاجتهادي الذي ينتمي اليه بتقليده بحيث لا يمكنه مشاركة الفقيه في استنباطه للنص التشريعي.. من تلك الثنائية التي تحمل مفارقاتها معها برزت ازدواجية في الذهنية المثقفة تتردد بين مطرقة التعقل وسندان التعبد، وهنا تبرز مشكلة في عدم وضوح الحدود التي ينبغي الالتزام بها في حركة الفكر بين ما هو عقلاني وما هو تعبدي، على اننا لا ننكر الاشتراك بينهما من حيث البنية، فليس كل ما هو تعبدي مناف للعقلانية، لكن على مستوى الممارسة إما أن يكون الحراك عقلانيا أو تعبديا، وهنا مشكلة النمطية الحاكمة على الحراك الذهني بين الالتزام بالمخرج الاجتهادي على انه غير خاضع للعقل بشكل تام، والالتزام بما تدعو اليه العقلانية من محاكمة كل ما يصدر عن المنظومة الفقهية تجاه قيم متغيرة وثقافات متعددة.. ثم يبدو أن ما هو عقلي يختلف من الإلهي إلى الانساني بحيث تختلف الرؤية الدينية عما تدعو الرؤية الفلسفية في العقلانية لتنتج ثنائية جديدة مفادها عقل ديني وعقل فلسفي يكتسب الأول أفكاره من الوحي فيما ينحو الثاني إلى أخذ أفكاره من الواقع بمعنى آخر تظهر مشكلة المطلق والنسبي، وهو ما يؤجج الجدل بين العقل والتعبد مرة أخرى، لعدم ثبات المشترك بين العقلانية والتعبد تبعا لاختلاف المصدر.. يشير التعبد إلى الالتزام بحرفية النص، حفظا للقداسة التي تحوم حوله، من دون محاولة النظر فيه أو تأويله، مما ينتج حالة من الجمود على النص ومغادرة روح النص التي تختزل الكثير من المعاني، وما يثيره مفهوم المقاصد من حساسية على مستوى الفقه المدرسي تجعل التفكير المقاصدي في منأى عن الممارسة الفقهية، إلا أن ذلك لا يدعو إلى مغادرة التفكير بروح التشريع وما ينطوي عليه من اعتبار قيمة الانسان في انتاج الاحكام، لأن نمط التفكير الفقهي قد يبتعد كثيرا عن ملاحظة التساؤلات الملحة بشأن مكانة الإنسان في التشريع، والبنى المنهجية تكاد تخلو من أي اعتبارات للقيمة الانسانية بل ركزت على تفاصيل قواعد الفهم للخطابات الشرعية، في محاولة إلى استظهار المرادات والدلالات التي ينتجها فهم النص، بحيث أصبح الشغل الشاغل هو فهم النص التشريعي بقد عال من الاحتياط في انتاج دلالة تستوفي الشرائط الابستمولوجية كما يقررها اصول الفقه، بعيدا عن شرائط العامل القيمي، فيؤول الأمر إلى الاقتصار على استخراج نتائج ظنية معتبرة عبر آليات الاستنباط التي غايتها الكشف عن مراد النص التشريعي، في حدود ظهور الحكم، من دون ملاحظة ما تستتبعه تلك المرادات من نتائج على أرض الواقع، مما يؤدي إلى انتاج منظومة غير مكتملة من حيث توفر معالم قيمية تنسجم مع روح النص التشريعي. اذا كانت المقاصد تثير اشكالية التعليل في الاستنباط الفقهي، فان التعليل ربما يكون ضروريا في مرحلة التأسيس إلى معنى التشريع وغاياته، بمعنى أن الموقف الفقهي من التعليل إذا كان يتجنب التعليل في مرحلة استنباط الحكم فلا ينبغي أن يتجنبه في مرحلة التبرير واظهار فلسفة تشريع الحكم، فهذه الأخيرة هامة للغاية، لأنها تشرعن إلى تسويق الممارسة الاجتهادية، فبعد أن يقوم الاجتهاد على اسس استدلالية بعيدة عن الاعتماد على التعليل، فلا يعني ذلك عدم الحاجة إلى التعليل البعدي، فالتعليل القبلي الذي يتخلل الممارسة الاستنباطية ترفضه أغلب مسالك الاستدلال في حين يمكن تفعيله في مرحلة لاحقه ليكون تعليلا بعديا، أي بعد انتاج المعرفة الفقهية، مما يفضي إلى معالجات جادة في اظهار واستجلاء الجانب القيمي من مجمل الاحكام التي تم الانتهاء اليها اثناء عملية الاستنباط الفقهي. إذن نحن أمام دعوة جادة إلى العودة إلى المعنى الكلي، ذلك المعنى الذي تتجاوزه مرحلة التفسير الأولية التي يمارسها العقل الفقهي وهو يتعامل مع النص التشريعي، فالتفسير والفهم والاستدلال الذي يمارسه العقل الفقهي على نحو تفصيلي جزئي ينبغي أن ينتهي إلى إعادة النظر على النحو الكلي عبر الاحاطة بالمنتج الكلي للاستنباط في محاولة الى استجلاء المعنى الكلي للتشريع الذي يراعي قيمة الانسان وحضوره في انتاج المعرفة الفقهية. ان اعتبار مآلات الاحكام وما تنتجه من انساق حياتية لشيء هام وقد تنبه الشاطبي في حديثه عن المآلات بما نصه: (النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة)، والواضح من نص الشاطبي أنه يركز على المصلحة والمفسدة وهو معيار لا يكفي من دون انضاج وتطوير لفكرة ملاحظة ما تؤول اليه الاجتهادات من انساق حياتية، عبر مراعاة الواقع والتباساته في المعرفة الفقهية، ويمكن القول أن اخراج ملاحظة المآلات من حيز المقاصد الى حيز آخر أكثر عمقا عبر رؤية واسعة تستغرق المتغيرات الطارئة لأن حيز المقاصد الشرعية يمثل مساحة جامدة نسبيا ومقيدة بالفهم الكلي لما يريده الشرع، وبعبارة أخرى تعد المقاصد ضمن أفق النص ولا يمكن اندماجها مع سياقات اعتبار الواقع ومتغيراته. وللواقع اثره البالغ في تحديد وجهة التفكير في المعرفة الفقهية والمقصود بالواقع هو كل ما يرتبط بحياة الانسان في تفاصيلها المتكثرة والتي تخضع لمتغيرات وغالبا ما تشكل وسائل ضغط على الانسان في حياته الدينية، وهو ما يدعو إلى تجاوز عقدة التعبد ومراعاة ملابسات الواقع الضاغط على مخرجات المعرفة الفقهية بما ينسجم مع مقتضيات حاكمية الاخلاق على الفقه وضرورة بناء المنظومة الفقهية على اساس قيمي أخلاقي يستوعب المتغيرات المعاصرة التي تحيط الفكر الديني بنحو عام.

*رؤية تأسيسية لفلسفة العلوم الدينية* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

*رؤية تأسيسية لفلسفة العلوم الدينية* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

مدخل: يعد حقل فلسفة العلم ضمن مجال الفلسفة في الأبستمولوجيا، والذي يهتم بطبيعة العلوم وخصائصها النظرية عبر رؤية مكثفة من خارج العلم تتناول تاريخ العلم ومصادر معرفته وطبيعة نظرياته وخصائص اصطلاحاته وطبيعة البناءات المنهجية التي تحكمه.. والعلوم الانسانية لم تحظَ منذ البدء بفلسفة تبحث في بنيتها، بل تأثرت بفلسفة العلم في العلوم الطبيعية، اذ كانت فلسفة العلم تعنى بالعلوم الطبيعية، ومن ثم وبعد ظهور العلوم الانسانية، تأثرت الأخيرة بفلسفة العلم، وقد واجهت فلسفة العلوم الانسانية بعض الصعوبات، بسبب كونها تدرس ظواهر متفردة وخفية، بمعنى ان موضوعات العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا من الموضوعات غير المشاهدة بالحس، ولا تخضع إلى الإحاطة المختبرية، وانما موصوفة من خلال الملاحظة المجملة لسلوك الفرد والجماعة، مما يتعسر الوقوف على الظاهرة كما يقف العلم التجريبي على الظاهرة في المختبر، ومن ناحية أخرى تمتاز موضوعات العلوم الانسانية بالتعقيد، لكونها متداخلة، ومتغيرة، وفق الاطار الزمكاني، حتى علوم اللغة منها، عصية على مناهج العلم التجريبي، اذن ثمة تأثر وتفاعل بين العلوم الانسانية وفلسفة العلم من جهة، وثمة تعقيد وابهام في اصل تكون فلسفة العلوم الانسانية، لأننا تارة ندرس علم الطبيعة أو علم الانسان، او علم الفيزياء، او علم الاجتماع..، وتارة أخرى ندرس علم العلم، وهو مساحة للتفكير من خارج العلم، وفي مناهج العلم وظواهره ومشكلاته العامة، والأهم من ذلك التفكير في قيمته.. وقد تطورت فلسفة العلم من الوصف الى النقد من خلال تحول تعريفات فلسفة العلم وتطور مفهومها، فبعد أن كانت فلسفة العلم تنحو منحى وصفيا، فقد أصبحت تمارس النقد والتحليل، وهو ما يفضي إلى أن تكون مؤثرة في تطور العلوم وتصحيح بعض مساراتها. وفي معرض تناول فلسفة العلوم الدينية، ينبغي ملاحظة المحاولات التي ركزت على بعض من تلك العلوم، كما في (فلسفة الفقه) و(فلسفة أصول الفقه)، وفلسفة الدين كمجال أوسع قد يتداخل بنسبة عالية مع ما تتم المحاولة اليه من اكتشاف ملامح لفلسفة العلوم الدينية، اذ تعد فلسفة الدين مجالا واسعا ومفتوحا على فروع الفلسفة (اللاهوت، الابستمولوجيا، الوجود، القيم والجمال)، في حين تكاد تقتصر فلسفة العلوم الدينية على (المجال المعرفي الابستيمي)، من دون التركيز على تناول المجال الوجودي الانطولوجي او القيمي الاكسيولوجي، ومن هنا تبرز الجدة في تناول فلسفة العلوم الدينية بنحو من الاستقلال عن الفروع الاخرى للفلسفة من جهة، والشمول لجل تخصصات العلوم الدينية من جهة أخرى. لذا يمكن –بنحو أولي- تحديد أهداف عدة لفلسفة العلوم الدينية على وفق الفقرات: 1- تحديد طبيعة مصادر المعرفة في العلوم الدينية. 2- تحديد أسس بناء النظرية العلمية في حقل الاختصاص الديني. 3- تحديد طبيعة مناهج المعرفة والفهم في العلوم الدينية، وثمة خلاف حول هذا الهدف، وهل يعد علم المناهج علما مستقلا، أم ممكن أن ينضوي تحت فلسفة العلم.. 4- محاولة تحليل اشكالية الذاتي والموضوعي في البحث المعرفي في العلوم الدينية. 5- تحديد الذاتي والعرضي في البحث المعرفي في العلوم الدينية. 6- تحديد أسس التعاطي مع المعارف الغيبية وتقنين توظيفها في المسارات البحثية بما يتناسب مع مقتضيات البحث العلمي. 7- محاولة اكتشاف وتحديد المرجعيات المعرفية والبرادايم المعرفي من خلال تحديد النماذج الارشادية في مختلف تخصصات المعرفة الدينية. 8- محاولة تحديد قيمة المعرفة التي ينتجها العقل الديني، ومدى ثباتها أو اطلاقها، وتحديد مديات التفاوت فيها. وهذه الفقرات يمكن عدّها أهداف أولية لفلسفة العلوم الدينية، الى حين الاكتمال والنضج حتى تتم معالجة التداخل فيما بينها، أو الاضافة والحذف لبعض منها، لأن مجال الفلسفة أوسع من مجال العلم، ومديات البحث والتفكير في الفلسفة أبعد منها في العلوم، فغالبا ما يكون العلم محددا بأسيجة من النظريات والقواعد التي تشكل نسقا منسجما له اصطلاحاته وحدوده المنهجية، في حين تطرق الفلسفة جميع أبواب المعرفة فيما يخض العلم، فهي تثير التساؤلات وتقترح الإجابات حول كل علم من العلوم الطبيعة أو الإنسانية. الخصوصية المعرفية للعلوم الدينية ربما لا يحظى عدّ (العلوم الدينية من جملة العلوم الانسانية) بمقبولية لدى كثير من الدارسين والمتخصصين، إذ تمثل المعارف الدينية حقلا مفارقا في بعض جوانبه، لما يختص به من عناصر تتصل بالغيب، مما يشكل عائقا أمام التفكير المنهجي الذي يفترض التعاطي مع المعارف على أساس كونها معارف بشرية تتسم بطابع من النسبية والتحول وتخضع أيضا للنقد والتغيير..، لذا فإن تناول فلسفة العلوم الدينية يحيل بالضرورة الى تحديد الفاصل المنهجي بين المعارف الغيبية من جهة، وتجليات الفهم البشري من جهة أخرى، وهذا ما يؤول الى إعمال نظر دقيق في فرز ما هو مقدس عما هو أدنى منه، لتتم عملية التنظيم المنهجي بما لا يتداخل مع المعطى الغيبي يؤدي الى مفارقات معرفية غير منتجة. ويمكن إجمال خصائص العلوم الدينية بالفقرات: 1- وجود معاني مقدسة ومفارقة، غير قابلة لأن تكون محلا للتفكير والتعقل، مثل البحث في حقيقة الذات الإلهية. 2- وجود نص ديني قطعي الصدور، غير قابل للبحث في صدق صدوره عن جهة غيبية عليا، والا سوف يكون البحث حينئذ في مجال فلسفة الدين. 3- وجود تفاوت في النماذج التي تفسر النص الديني، فمرتبة السنة المبينة أعلى من مرتبة فهم العلماء، ولكل منهما طريقة مختلفة في التعامل. 4- مديات التحول والتغير في المعارف الدينية طويلة الأمد، قد تحتاج الى قرن من الزمن لكي تبين وتنكشف. 5- التردد في طرح الرؤى بسبب ضغط العامل الإيماني على عامل التفكر والتأمل العقلي، مما يفضي إلى التأني في الفهم وطرح الأفكار. 6- ثنائية التنظير والتطبيق، العلم والعمل، في جل المعارف الدينية، مما يؤدي إلى تعدد مناهج الفهم بين ما هو نظري وما هو مرتبط بالواقع العملي. 7- ثنائية الموضوع في العلوم الدينية التي تدور حول محور المقدس من جهة، والانسان من جهة أخرى، مما يؤثر في صياغة التصورات التي تحاول أن تكون في حالة توازن بين مقتضيات وجود المقدس من جهة، ومقتضيات وجود الإنسان من جهة أخرى. 8- وجود علوم آلية تمثل وسائل وأدوات في العلوم الدينية كعلم المنطق والفلسفة والنحو والتاريخ وغيرها من الحقول المعرفية التي يمكن أن تؤدي وظيفة العلوم الخادمة. من فلسفة الدين إلى فلسفة علوم الدين: تتناول فلسفة الدين كل ما يرتبط بالدين من خلال رؤية من خارج الدين، تحاول أن تسلط النظر في مديات فهم الدين، من ناحية أصل ونشوء الدين، إلى قيمة عناصر التدين، والهدف من الدين، مما يشير إلى ارتباط خفي مع موضوعات علم الكلام الجديد، وبالتالي فإن فلسفة الدين أرحب وأوسع من أي علم ديني، ويكون البحث في فلسفة الدين ضمن مختلف فروع الفلسفة سواء الوجود أو المعرفة او الجمال والقيم، في حين تعنى فلسفة العلوم الدينية بالجانب المعرفي فقط. وثمة تداخل بين علم المناهج (ميثودولوجيا) وفلسفة العلم، وفيه اتجاهان، يميل أحدهما إلى عدم التفريق بينهما فيما يميل الآخر إلى التفريق واعتبار أن المناهج علم مستقل تتناوله فلسفة العلم كما تتناول العلوم الأخرى، وهو ما نرجحه، لأن علم المناهج قد يجيب عن ماهية المنهج المتبع في أي حقل أو مجال، لكن فلسفة العلم قد تجيب عن قيمة ذلك المنهج الذي حدده مسبقا علم المناهج، لذا فإن رؤية فلسفة العلم لعلم المناهج توافق رؤيتها لبقية العلوم. وفيما نعتقد أن فلسفة العلوم الدينية لم يتم الاشتغال عليها بنحو جاد، سوى ما يتعلق بفلسفة الفقه، أو فلسفة أصول الفقه، وأما السعي إلى اكتشاف أو تأسيس فلسفة العلوم الدينية بنحو عام سوف يؤدي وظيفتين في آن واحد: الأولى: سوف تتشكل لدى من يتناول فلسفة العلوم الدينية رؤية جاهزة عن علم المناهج الدينية، إذ لا يمكن التفكير في فلسفة العلوم الدينية من دون تحديد عناصر العلوم الدينية من الناحية المنهجية وكيف يتكون المصطلح، وتحديد مديات النقد، وأصوله، والمتغيرات المنهجية والمفاهيمية التي تتضمنها العلوم الدينية. الثانية: تتمثل في وظيفة فلسفة العلم في ذاتها، من خلال تقييم التصورات العلمية والمعرفية التي تم بناؤها، وممارسة النقد في بعض نواحيها، وإعادة انتاج المعارف في العلوم الدينية من خلال ما توفره فلسفة العلم من إضاءات حول المنتج البشري في المعارف والعلوم. ان الفائدة التي يمكن أن تشكل محورا أساسا في فلسفة العلوم الدينية هي عملية ادراك الأنموذج العلمي (البرادايم)، وهي عملية لا يوفرها العلم، بل فلسفة العلم، ولا يمكن التجديد في أي علم ما لم يتم إدراك البرادايم الذي يحدد المعرفة ويوجهها من دون أن تتم ملاحظته في الغالب، فانسحاب قدسية الوحي على التفسيرات والتأويلات التي يقدمها البشر لمضامين الوحي هو نوع من سلطة الأنموذج العلمي، فما نطلع عليه من تأويل متداخل مع المضمون المتعالي، وفك التداخل لا يتم إلا من خلال إدراك أن المعرفة الوحيانية تمثل أنموذج يحكم الفهم. على أنه تجدر الإشارة إلى أن حقل أصول الفقه يعد من أهم الحقول في العلوم الدينية التي من شأنها أن تعين على اكتشاف الخرائط المنهجية للعلوم الدينية، وربما يصح أن نطلق على أصول الفقه بـ(علم منهج العلوم الدينية)، لكونه يؤسس إلى قواعد قراءة النص الديني من جهة، وترتيب أولويات الأخذ بالأدلة النصية عبر منظومة (القطع والظن)، وهو بهذه الحال ممكن أن يكون مؤهلا للتفاعل مع القضايا العقدية أيضا، إذا ما تمت ملاحظة الجانب التنظيمي فيه، من ناحية الاختزال الاصطلاحي، والقواعد التي تنظم عملية فهم النصوص الدينية، لذا يمكن البدء فيه لتأسيس أرضية مناسبة للبحث في فلسفة العلوم الدينية، لأن من اجلى وظائف العلم الديني هو فهم معطيات الوحي، أذ يتعامل العقل العلمي الديني مع ثلاثية: (النص، الواقع، الانسان)، وهو ما يحيل إلى ضرورة منهجة التفكير في ذلك الحيز، ومن ثم تشتغل فلسفة العلم الديني على تقييم الممارسة برمتها، بعد إثارة التساؤلات واقتراح الإجابات. هذه ورقة أولية عن محاولة جادة في مجال فلسفة العلم الديني عسى أن تنتهي إلى بحث أوسع بعون الله تعالى وتوفيقه. ***

*قراءة ومراجعة في كتاب: مقتضيات الحكمة في التشريع* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

نحو منهج جديد في تشريع الأحكام مدخل: يعد مجال علم الفقه والتشريع من المجالات التي شهدت تطورا في البنية والمنهج في المرحلة الاسلامية، فلم يتطور علم من العلوم الدينية وينضج كما في علم الفقه وأصوله، فضلا عن كونه المؤثر الأكبر في المجتمع والتاريخ من بين العلوم الدينية الأخرى، وهو بهذه المكانة أصبح يُنظر إليه من ناحيتين، فمن ناحية التفكير المنهجي المنضبط وما أسهم فيه من تهيأة منظومة من الأحكام التي تلبي متطلبات الايمان الديني وتشكيل الهوية الدينية، كان دوره فاعلا على مدى التاريخ الاسلامي. ومن ناحية توظيفه في تكريس بعض الميول والاتجاهات العقدية التي أدت بنحو وبآخر إلى خلق بعض الأزمات، كان ذلك من نتائجه السلبية، وهي بحدود تتبعي تعود إلى مناهج الفهم البشري وكيفية التعامل مع النصوص التشريعية من قبل بعض البيئات والتوجهات الفكرية. دأب الفقهاء المسلمون على قراءة النص التشريعي واستقاء الاحكام الشرعية لتوجيه الجانب العملي من الدين، عبر علوم الشريعة والاستنباط وبالأخص علم أصول الفقه الذي يعد من أفضل ما انتجته المعرفة الدينية الاسلامية بنحو عام، بما أسهم فيه ذلك العلم من ارساء لقواعد منهجية منضبطة في تحليل النص التشريعي، بحيث نجح علم أصول الفقه في توظيف العلوم الآلية الأخرى (المنطق والنحو وعلوم اللغة..) في خدمة النص الديني، وهو مما لا يمكن تغافله برغم بعض الإخفاقات التي شابت بعض التوجهات في مناحي الاستدلال الفقهي في مختلف المذاهب الاسلامية. لذا كانت دراسات الفقه وتشريع الأحكام موضعا لإثارة الجدل والاختلاف بسبب تداخل العلوم والمناهج في عملية استنباط الأحكام، التي تعد من أعقد وظائف علماء الدين، لأن هذا المجال على صلة وثيقة بواقع السلوك والعمل للفرد والمجتمع وبناء النظم ومسارات العيش. إن قراءة ومراجعة كتاب (مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام- لمؤلفه المفكر العراقي القدير ماجد الغرباوي) تأتي في سياق متابعة المنجز المعرفي في عموم المعرفة الدينية الراهنة التي تتابع أثر الدين في الحياة، ومن هنا تبرز أهمية الكتاب ومراجعته على حد سواء. وعبر اعتماد منهج تحليلي لا يخلو من النقد التزاما بالحياد والموضوعية برغم العلاقة الطيبة التي تجمعني بالمؤلف، وبرغم التوافق الفكري والمعرفي الذي يجمعني به، لكن ذلك لم يؤثر إلى حد ما على طبيعة القراءة والمراجعة الدقيقة للمنجز المميز الذي قدمه الغرباوي في هذا الكتاب. المطلب الأول: قراءة في التساؤلات والفرضيات التي بني عليها الكتاب: بعد تتبع مقدمة الكتاب يمكن تحديدة جملة من المنطلقات التي شرع منها المؤلف في كتابة مشروعه: يمكن ملاحظة أن الكاتب مدرك جيد لرهانات التجديد وضرورته في مجال الفقه تشريع الأحكام، بعد أن ألمح إلى حجم التطورات التي سادت المشهد الحياتي في العصر الراهن، ومدرك أيضا لحجم الفجوات وخطورتها في البناء المعرفي لعلم الفقه وما تؤول إليه من نتائج على مستوى الأحكام المستنبطة والتي وصلت حد الفتاوى التي من شأنها أن تؤثر في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.[2] - لاحظ الكاتب بدقة بدايات التكوين لعلوم الفقه والاستنباط من خلال ما عرض له في مدونة الشافعي التي تعد مساحة تأسيسية أولى على المستوى الاسلامي، وما تمخضت عنها من قواعد وأسس آلت بالنتيجة إلى ما هو عليه الفقه الاسلامي اليوم من نسق معرفي[3]. - يقع الكتاب ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وهو ما يشير إلى هم كلي حول منظومة الفكر الديني، عبر الاهتمام بمسائل الفكر الديني بنحو عام من قبيل القيم والاخلاق وأثر العقائد في بناء الوعي الديني وما تتضمنه تلك المجالات من مشكلات حقيقية تمثل هم المثقف الديني في المشهد الراهن، لذا اكتسب مشروع الكتاب طابعا نقديا حادا إلى حد ما. - يفترض الكتاب بنحو أساس وقوع التعارض بين الشريعة والأخلاق وأن هذا التعارض يهدر القيمة الأخلاقية، ويفرع على هذا الافتراض تساؤلات جدلية أبرزها: ماهو التعارض؟ وما هو سببه؟ وهل يمكن تسويته؟ أم أنه تعارض مستقر؟ وهل يمكن رفعه؟ ويمكن الملاحظة على الافتراض الاساس من عدة وجوه: 1 – ان افتراض وقوع التعارض بين الشريعة والاخلاق يبتني على مقولة التعارض التي تعد مسألة جزئية لها قواعدها في الأحكام الجزئية المتعارضة، بينما نحن بصدد التفكير في التنافي بين الشريعة والأخلاق بنحو كلي ولو بملاحظة بعض الجزئيات لكن التعارض كمصطلح (أصولي/ في أصول الفقه والاستنباط) أخذ فيه تعارض الأحكام بين حكم واجب وآخر مباح أو محرم، مع تساوي الموضوع ودليل الحكم، بينما التنافي بين الشريعة والأخلاق يعد تنافي من حيث روح الحكم لا من حيث تساويهما في قوة الدليل واختلاف سنخ الحكم من جواز أو منع. 2- ان اطلاق (المستقر) على التعارض وافتراضه، لم يدعيه أحد، والكتاب في أطروحته مع كونه ينقد التنافي بين بعض أحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق فهو لم ولن يسلم بالتعارض المستقر لأنه اقترح منهجا بديلا من شأنه أن يحل مشكلة التنافي بين بعض أحكام الشريعة من جهة، ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى. 3- إن طرح الاشكالية بمصطلحات من داخل علوم التشريع (الفقه وأصوله) يمنح المشروع رصانة علمية من جهة، ويقوي منطلق البعد النقدي في المشروع، إذ يمثل النقد من داخل منظومة التفكير المنهجي الفقهي حالة جديرة بالاهتمام من قبل المختصين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية المراجعة والتصحيح فيما بعد إنضاج مشروع الكتاب. والتركيز أيضا على الحلول بمصطلحات من داخل المنضومة كـ( اسباب التعارض ورفعه) تعد محاولة ناجحة في إكساب المشروع قابلية لإقناع المشتغلين في علوم الشريعة (الفقه وأصوله)، برغم ملاحظتنا على استعمال مصطلح (التعارض) في أصل الفرضية والاشكاليات. إذن ركز الكتاب في فصله الأول على اشكالية التعارض بين الشريعة والأخلاق، وهذا التساؤل المفصلي أصبح الموجه الأول في مشروع الكتاب، من خلال ما يعرض إليه من مشكلات سادت المنجز المعرفي الفقهي في تعامله مع مشكلات الواقع، ومدى مراعاة الجانب الأخلاقي والقيمي الذي أصبح هاجز الثقافات المعاصرة اليوم. المطلب الثاني: فرضية الكتاب وإشكالاته: الارضية التي ينطلق منها الكاتب ليؤسس مشروعه تتضمن فرضية ومجموعة من المشكلات التي تمت ملاحظتها من قبله، وأولى تلك المشكلات هي التعارض بين الشريعة والأخلاق، وفي ظني أن المحور الأساس في اشكلات الكتاب هو ثنائية الفقه والأخلاق، ومدى الانسجام المنهجي، لأن الانسجام البنوي بينهما يكاد يكون محسوما، وهو ما أكده الكاتب من كون التعارض ليس مستقرا وليس في عالم الثبوت، بل في عالم الإثبات والاستدلال، وهو بهذا المعنى يكون منهجيا بالمعنى الأعم لمفردة المنهج.. أولا: اشكالية التعارض بين الشريعة والاخلاق (النقد من داخل المجال المعرفي): ان تناول هذه الاشكالية من الأهمية بمكان، إذا ما لوحظت بمستوها الكلي والجزئي، ونحن نسلم مع الكاتب أن تناول الكليات ومناقشة الأصول التي يبنى عليها التشريع مما يكتسب أهمية نظرية بالغة الضرورة، وثمة اهتمام ولو نسبي من قبل علماء المسلمين حول هذه المسألة، كما في تناولهم مقاصد الشرع وملازمة الشرع للعقل في بناء الأحكام وتشريعها، وهومما لا يمكن إغفاله بأي حال، لكن الحديث في المآلات والجزئيات يكتسب قيمة وأهمية أكثر من الجانب الكلي. فعند متابعة أولويات الاهتمام الفقهي على مستوى مراعاة القيم والمبادئ الكلية سوف نجد تفاوت بسيط، بخلاف واقع التطبيق الجزئي لتلك المبادئ ومصاديقها على الواقع، رغم أنه أكد عدم تبنيه للتعارض المستقر بين الشريعة والاخلاق[4]، وهو ما يدعو إلى صياغة عنوان الاشكالية بنحو أدق ليصبح التنافي والمفارقة بين الفقه كمنجز بشري والأخلاق على اعتبار أن الشريعة هي ما انبثق عن عالم الثبوت والواقع من قبل الوحي. وقد ركز الكتاب في مشروع الكتاب على أهمية مراعاة تلك المبادئ (العدل، الحرية، المساواة، الاخلاق..) وحاول تحديد مواضع الخلل في بعض المسائل كما في مسألة قتل المرتد[5]، وهي المسألة التي تعبر عن الجانب الجزئي من الاشكالية، ولا تقل أهمية عن بقية المسائل التي أشار إليها الكاتب. ومع متابعة منطلقات البحث عند الكاتب، نلحظ ان النقد يقوم من داخل المجال المعرفي للفقه، ففي البدء ينفي التعارض الجوهري بين الدين والأخلاق على مستوى الواقع التشريعي (عالم الثبوت)، ويقصر الأمر على مستوى فهم الخطاب التشريعي، مع ملاحظة بشرية ذلك الفهم وعدم معصوميته من الخطأ، كما أنه يقف موقفا تجاه تخصيص السنة للكتاب، فيذهب إلى عدم إمكان تخصيص العام القرآني بخبر الواحد الظني، كما ينقل هذا الرأي عن بعض الحنفية[6]، لكنه يشير إلى إمكانية ذلك إذا كان على نحو التفصيل والبيان[7]، ومشهور فقهاء الإمامية مع جواز التخصيص، وهنا تكمن الجرأة في مخالفة المشهور، على أن كثر من العلماء الإمامية يرجحون أن تخصيص خبر الواحد للعام القرآني يأتي في سياق التبيين والتفصيل، ويفترضون أن العام ظني الدلالة، ويقدم الخبر اذا كان قطعي الدلالة، مع التحقيق في مسألة صدور الخبر[8]. كما يؤكد على الاهتمام في فلسفة الأحكام الشرعية وتتبع غايات الأحكام وما تحققه من مصالح وما تدرءه من مفاسد، ويكرس على متابعة ما ينتجه العقل العملي من قيم أخلاقية أصيلة، تكون جديرة بالوعي لها ومراعاتها في ضمن عملية فهم النصوص الشرعية. ثانيا: فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع (التأسيس من داخل المجال المعرفي): ينطلق الكاتب من ملاحظة مرحلة الجعل، وهو ما يشير إلى محاولة التأسيس من داخل المجال المعرفي لعلم الفقه وأصوله، فيطرح مصطلح (مقاصد الجعل) ويشير إلى أنها غير (مقاصد الشرع)[9]، والمراد من مقاصد الجعل عنده هو ما تقتضيه حكمة وفلسفة التشريع في ضوء مجموعة من آيات القرآن الكريم، انطلاقا من عقلنة التشريع التي تتضمن الكشف عن آليات عملية التشريع بعد تحديد مبادئها في ضوء مقتضيات الحكمة والقيم الأخلاقية، منطلقا من قوله تعالى: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[10]، مستفيدا إمكانية إيتاء الحكمة لأي شخص يسعى إلى بلوغها، من أولي الألباب والعقل، وأهم ما يلفت النظر في أطروحة الكاتب هو (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وتطورتها)[11]، وخلاصتها أن التشريع يستند إلى قيم أخلاقية يمكن للعقل أن يدركها، ويوظفها لملئ الفراغ التشريعي، وهنا لنا وقفة مع هذا الطرح من عدة وجوه: على النحو الكلي لا يوجد خلاف على أصل استناد التشريع على القيم الأخلاقية. جريان التشريع وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على النحو الكلي واضح، لكن على النحو التفصيلي يحتاج إلى بناء قواعد تفصيلية جديدة. ان العقل يمكنه إدراك بعض الكليات من القيم والمبادئ الأخلاقية، لكن تحديد المصاديق موضع خلاف بين البشر في أغلب الموارد والحالات. إن الإشارة إلى منطقة الفراغ وتوظيف مقتضيات الحكمة لملئها سوف يحدد من فرضية الكاتب في مشروعه، إذ أن التنافي أو التعارض بين بعض الأحكام والقيم الأخلاقية لم يكن في مجال الفراغ التشريعي فحسب بل هناك أحكام دلت عليها أدلة معتبرة (مملوءة شرعا) وتعاني من إشكالية التنافي مع القيم الأخلاقية بحسب فرضية الكتاب. نقطة القوة في التأسيس: من الملفت للنظر وما يمثل نقطة القوة في طرح (المنهج الجديد)، هو ما تناوله الكاتب حول توقف فعلية الاحكام على فعلية موضوعاتها، فالاستطاعة مثلا شرط في وجوب الحج، وحكم الحج (الوجوب) متوقف على فعلية موضوعه (فعل الحج) والذي بدوره متوقف على شرط الموضوع (الاستطاعة)، من هذه الصورة التحليلية للحكم الشرعي التي قدمتها المدونة الفقهية والأصولية، انطلق الكاتب في صياغة منهج مقتضيات الحكمة في التشريع، ليجعلها على الأقل أحد أركان تحقق موضوع الحكم، مع تبنيه عدم كفاية تحقق موضوع الحكم من ناحية الفعل وبعض شروطه كما في الاستطاعة، بل يدعو وبنحو واضح إلى فحص موضوعات الأحكام (كأفعال للمكلف) من حيث مدى انسجامها مع الحكمة في التشريع والقيم الأخلاقية، وهو ما يدعو بنحو حثيث إلى الاهتمام بحكمة التشريع في أثناء فهم الدليل واستنباط الحكم واصدار الفتوى، فلابد أن يكون الحكم ناظر للواقع ومحكوما بالمبادئ التي تحفظ مصالح الإنسان، وليس الحكم مجرد التزام بمقتضى العبودية ومنطق التعبد فحسب، بل هو التزام بمنطق القيم الأخلاقية التي تحفظ وجود الإنسان، ومقاصد الشرع بنحو عام. ولم يغفل الكاتب أيضا، ما لهذه العملية من جانب معقد كما أشار إلى ذلك[12]، وإن قراءة النصوص الشرعية في مقام الاستنباط لن تكفي في ادراك الملاك والمصلحة مطلقا، مالم تتم الإحاطة ولونسبيا بما يصرح به القرآن الكريم من مبادئ وقيم وقواعد عليا، تحكم الفهم الفقهي للنصوص الشرعية وتوجه عملية الاستنباط بما يوافق مقتضيات الحكمة في التشريع. كذلك أسس إلى معالم جديدة حول مفهوم التشريع والقرآن الكريم، عبر التأكيد على وحيانية النص القرآني، من جهة، وفهم مغاير لقداسة النص القرآني من جهة أخرى، إذ تعتمد رؤيته حول القداسة على ملاحظة خصوبة النص وثرائه وعمقه وإمكانية كبيرة لتأويله والبحث في أعماقه، بخلاف التعبد المحض الذي يلغي الإرادة والواعية للإنسان المتدبر[13]. وللواقع أهمية بالغة في رؤيته حول النص التشريعي في القرآن، ولما كان القرآن الكريم يشير بنحو واضح إلى واقعية الأحكام كما في قوله تعالى: (ويسألونك.. ويستفتونك)، فإن هذا الشاهد يؤكد على أن القرآن الكريم في بعض مسائله جاء استجابة إلى واقع محدد، ومنه يمكن إدراك أن الأحكام الشرعية منها ما هو زمني محدود، ومنها ما هو مطلق لكل زمان ومكان. ومن المسائل التي أسس إلى نقدها وإعادة قراءتها هو ما اشتهر عند الأصوليين: (المورد لا يخصص الوارد)، لكن الكاتب يشير إلى أن فعلية الحكم ترتهن لفعلية موضوعه، والمورد أحد طرق تشخيص شروط فعلية الموضوع وهي نتيجة هامة بنظره، وتوافقا مع ما يؤكد عليه السيد محمد باقر الصدر من ارتهان فعلية وعدم فعلية الحكم لفعلية وعدم فعلية الموضوع[14]. ويرتبط هذا الجانب بمبحث هام يتعلق بالقضايا الحقيقية والخارجية والتمييز بينها في موضوعات الأحكام، ويعد هذا المطلب من المطالب الأصولية المتداخلة مع الفلسفة كما بحثها مفصلا السيد الطباطبائي في كتابه الفلسفة والمنهج الواقعي، والتمييز بين نوعي تلك القضايا يساعد كثيرا على إعادة النظر في موضوعات الأحكام التي يتم عبر تنقيحها التمييز بين الأحكام المطلقة والأحكام المحدودة بزمان دون زمان. ربط التشريع بالأصول والمبادئ: لم يعهد الواقع الاستنباطي أن يتم الربط بين المبادئ من جهة، وإجرائيات الاستدلال من جهة أخرى، بحيث يتم استحضار المبدأ الكلي في أثناء عملية استخراج المعنى الجزئي من النص، وربما تضمن هذه العملية في سياق قبليات الفقيه والمؤثرات التي تحكم فهمه، فيكون تحصيل حاصل، لكن ليس بالنحو الذي يدعو إليه الكاتب، إذ استدعى مقاصد الجعل كحلقة بديلة عن عدم إمكان إدراك الملاك والمصلحة، كما يذكره مفصلا في كتاب آخر[15]، فيفترض وجود مبادئ وقيم تحدد تلك الملاكات التي تعد متعسرة الإدراك على العقل الفقهي، وتلك المبادئ والقيم تمثل مرجعيات كلية تدخل شرطا أساسا في تشكل لائحة الاستدلال على الحكم الجزئي، وتتصل تلك الأصولوالمبادئ بالمجال العقدي والرؤية الكونية، بحيث تزول الفجوات بين الفقه من جهة، وعلم العقيدة من جهة أخرى، عبر علاقة تتضمن رؤية فلسفية وكونية عن الإنسان ووضعه تحت نظر التشريع كمنظومة كلية شاملة. ويوضح الكاتب أن تلك المقدمات والمبادئ يتم إدراكها بالتأمل الطويل ومن قبل نخبة مستوعبة للتشريع بنحو كلي وعلى قدر عال من الوعي بمتطلبات الواقع الانساني. والملاحظ أن الكاتب في الغالب يحيل إلى كتابه (الفقيه والعقل التراثي) الذي يتضمن تفصيلات معمقة عن ضرورة اتصال الفقه بفلسفة القيم والأخلاق من جهة، وبفلسفة الإنسان وواقعه من جهة أخرى، محاولا الخروج من النسق التقليدي الذي يكتفي بالقواعد المحددة والتي تكون صارمة منهجيا، إلى مساحة أوسع تتضمن وعي القيم، ووعي الإنسان، ووعي الواقع، بمنهج عقلي/عقلاني، يتوخى استحضار الكلي في مقام استنباط الجزئي. ‏وتحت عنوان (مبادئ التشريع) تناول الكاتب فرضية مقتضيات الحكمة وما تقتضيه من أن الأحكام تشرع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع على وفق الواقع وضروراته، ويقصد بمبادئ التشريع تلك القيم والتصورات الكلية التي بموجبها يحدد مستوى الالتزام بالحكم الشرعي[16] ويتساءل حول ما إذا كانت مبادئ التشريع مبادئ إنسانية أخلاقيه كونية ثابتة في عرف العقلاء حتى تكون صالحة كمرجعية معرفية لملئ الفراغ، وفي النهاية يجيب عن ذلك بالإيجاب ويستحضر الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، من خلال مبادئ عدة تمثل مرجعيات جزئية، والجديد هنا أتنه يؤسس إلى الإطار المرجعي الموحد بين مختلف المجالات المعرفية، مؤكدا أن المرجعية للفقه لا للفقيه، ملتفتا إلى قيمة التراكم المعرفي في المجال الفقهي الذي يسوغ الرجوع إليه من باب العرف التشريعي، كما يشير إليه الكاتب صراحة.[17] ويتناول في المبدأ الأول مركزية العدل وعدم الظلم ويعتمد نصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان..) فإذا كان العدل قد أمر به القرآن الكريم مراراً فمن الأولى الالتزام به شرعياً، ومن ثم يحلل مفهوم العدل والعدالة في ضوء النص القرآني وينطلق إلى المبدأ الثاني السعة والرحمة، وهو مبدأ أساس في تشريع الأحكام قرآنية وتؤكده بعض النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم..) والآية في نظر الكاتب تصرح بقصدية الانتقال من العسر إلى اليسر وتحرير الناس من معاناة التشريعات السابقة وهنا ينتقل إلى فكرة ضرورة أن تراعي الشرائع الواقع وضروراته، والإسلام يختم تلك الشرائع بتخفيف ما كان يعانيه الناس من الشرائع السابقة وهو ما يؤكده قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم..)، والمبدأ الثالث المساواة، والمساواة عند الكاتب هي شرط صدقية عدالة الأحكام، وإنما تسري على الجميع، والمبدأ الرابع هومراعاة الواقع، وهو ما يجب مراعاته لتوقف فعلية موضوع الحكم على فعلية جميع ما يرتبط به، فالواقع هو موضوع الحكم، ويشير الكاتب إلى التحولات التي تلاحق الواقع وهي ملاحظة بالوجدان ‏كما يشير الكاتب أيضا إلى فكرة جوهرية في طرحه تتمثل بوحده المبادئ التشريعية إذ يذكر مجموعة أدلة وشواهد تؤكد وحدة مبادئ التشريع بين الأحكام السماوية والوضعية بما يتيح ملء منطقة الفراغ بعيدًا عن وصاية الفقيه سوى خبرة الفقيه الفقهية والقانونية، ووحدة المبادئ هذه تكرس حالة العقلانيه في الفقه الإسلامي وتؤكد ضرورة الاحتكام إلى الخبرة المتراكمة والمعارف البشرية في إطار وفي مجال القوانين والأحكام والتشريعات. ‏ويخلص في آخر بحثه إلى ضرورة تفعيل ولاية الشريعة بدل ولاية الفقيه ويعني بولاية الشريعة وهي أن تحكم الشريعة بالأدوات المجملة واستحضار العرف التشريعي والسيرة العقلاء، كل ذلك يقدم معرفة إجمالية من شأنها أن تقدم مساحة خاصة من المعارف التي تعين على استنباط الأحكام الشرعية وفق متطلبات الواقع. ‏أن هذا الطرح يساوي ما تطلق إليه بعض الفقهاء والباحثين من مصطلح روح الشريعة ومذاق الشرع ويمكن أن نفيد من طرح الكاتب أن المسألة في جلها تتعلق باستلهام القواعد والأحكام من خلال المعاني الإجمالية والكلية في التشريع التي يستفاد منها الفقيه في عملية قراءة واستنباط الأحكام الشرعية. خلاصة جاءت هذه القراءة بنحو موجز ومختصر، بعد متابعة الفصلين الأولين، اللذين تضمنا نسبة من التأسيس، وبقية الفصول كانت على موضوعات لا تقل أهمية عن الأول والثاني، فالفصل الثالث تناول مسألة الفراغ التشريعي بدءا من تكونها لدى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وانتهاءا بما يعرض إليه الكتاب من منهج جديد، تكتمل ملامحه من خلال بقية الفصول، إذ يعرض الفصل الرابع إلى الأسس الأخلاقية للتشريع، وعلى غرار بقية الفصول البالغة اثني عشر فصل. ومن الجدير بالملاحظة أن المشروع قائم على ملاحظة ونقد الفقه بنحو عام، وبمختلف اتجاته ومذاهبه، ولم يقتصر على الفقه الامامي، لأن كثيرا من التطبيقات التي ساقها الكاتب كانت نماذج لطروحات سلفية متشددة لا تمثل الرؤية الفقهية الإسلامية العامة، بسبب انفرادها بمنهج خاص في قراءة النصوص التشريعية، وهو ما يدل على سعة اهتمام وأفق الكاتب. إن المشروع في هذا الكتاب لايمكن استيعابه من دون الاطلاع على بقية المنجز المعرفي للمفكر الاستاذ ماجد الغرباوي، فضلا عن كونه سلسلة مترابطة من البحوث التي تبعت كتب ومؤلفات أخرى في سياق تجديد المعرفة الفقهية. إن ما يميز المساحة الفكرية التي يتحرك فيها المفكر ماجد الغرباوي، هي المجال العملي الواقعي الذي يوفره علم الفقه وما يختص به من قرب وصلة بالواقع، وهو ما يفتقد إليه عقل النخبة، إذ يغلب التعمق في المفاهيم والتنظير من دون الإحاطة بتفاصيل الواقع التي يتناولها مجال الفقه والأحكام بنحو تفصيلي، وهو ما تمكن منه الغرباوي بنحو دقيق أضفى طابعا شموليا على طروحاته، وبالأخص الكتاب الذي بين ايدينا، وسوف تكون هناك تتمة لهذه القراءة الموجزة للكتاب لتنتهي منها لاحقا بنحو مفصل بعون الله تعالى، والحمد لله رب العالمين. *** بقلم: ا. م. د أسعد عبد الرزاق الاسدي كلية الفقه/جامعة الكوفة ..................................... [2]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد في تشريع الأحكام- ماجد الغرباوي،ص: 5-6 [3]- المصدر نفسه، ص: 7-8 [4]- المصدر نفسه، ص 22. [5]- المصدر نفسه، ص: 25 [6]- ظ: نهاية السول للإسنوي (2/ 459) [7]- ظ: مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 17 [8]- ظ: محمد جواد مغنية، علم اصول الفقه في ثوبه الجديد: 190 [9]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص:31. [10]- البقرة: 269 [11]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 33. [12]- المصدر نفسه، ص: 35. [13]- المصدر نفسه، ص: 52. [14]- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول: 126 [15]- مقتضيات الحكمة في التشريع، مصدر سابق، ص: 120. [16]-المصدر نفسه، ص: 85 [17]- المصدر نفسه،

*هوية الإنسان بين التبديد والتجديد.. قراءة ومراجعة* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

*هوية الإنسان بين التبديد والتجديد.. قراءة ومراجعة* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

عندما نفكر في التصورات المجردة تلتبس بعض المفاهيم، وهو طبيعي إلى حد ما، في الإطار الثقافي الذي لا يفرض سلطة الدقة بالمصطلح كما هو الحال في الإطار العلمي الدقيق، لكن بقدر الإمكان تتم محاولة تحديد المفاهيم على وفق تصورات وانطباعات لا تخلو من المراجعة، ومفهوم الهوية من المفاهيم الفضفاضة ذات السمة النسبية التي تخضع المفهوم إلى تأثير التوجهات الذاتية أحيانا، وهو ما يشكل عقبة ما في طريق تناول هذا المفهوم في جوانبه المختلفة. وقد تعمدت أن أفرد الهوية من دون إضافة إلى كونها هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ذلك أن تلك المسميات لا تعدو كونها عناصر مكوّنة لهوية الإنسان، وفي ظني أن الإنسان لا يمكن أن تتشكل هويته في مجال محدد من دون تداخل بقية المجالات، فلا يمكن أن تتحدد هوية الإنسان بصفته الفردية أو الاجتماعية في قالب ديني فحسب أو سياسي فقط، وإنما تتداخل تلك الأطر فيما بينها لتخلق كيانا يتضمن الهوية ويحدد نمطها وطبيعتها، فالدين أحد أهم عناصر الهوية في مجتمعاتنا كما أن الثقافة أيضا تعد من عناصر بناء الهوية، نعم قد يغلب عنصر عنصرا آخر، وهذا طبيعي إلى حدما، واستثنائي في حالات خاصة، يتم تناولها لاحقا. ويمكن تحديد الهوية بما لخصه أحد الباحثين في الموضوع بأنها: (أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما. وعموما؛ هي مجمل السمات التي تخص عنصرا أو جماعة دون غيرها، والهوية فلسفيا تراكمية فلا توجد هوية الفرد حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الفرد مخيطا في نسيجها الكبير، ويعبر المنظور الفلسفي عن الهوية على أنها فرصة المطابقة والتشابه والتي تصنع بتظافرها هوية ثقافية لشعب لا يشركه فيها بكل محدداتها شعب آخر وإن اشترك معه ربما في بعضها. وللهوية مكونات أساسية تحدد ملامحها في كل جماعة أو أمة دون غيرها)1، والمشتركات يمكن إجمالها بنوعين من العناصر: العناصر الثابتة: (اللغة، المكان، الجغرافية، الاقتصاد، التاريخ..) العناصر المتغيرة: (الدين، المذهب، الثقافة، الوطن، القومية..) وسبب التمايز ربما يكون نسبيا وضئيلا، لأن التغيير في الفئة الأولى يمكن أن يحدث ولكن بنحو نادر، في حين يطال التغيير –في الغالب- الفئة الثانية، فالصراعات الدينية والمذهبية والسياسة تفضي إلى تحولات في بنية وتكوين الهوية، وهو أحد أبرز تحديات الهوية. ويمكن تحديد إشكالية الموضوع من نواحٍ عدة: أولا: صراع الهويات، رغم تداخلها، فالهوية الوطنية يمكن أن تصطدم بالهوية القومية أو الدينية. ثانيا: مخاوف التبديد، وهو ما يشكل هاجس الهوية المفقودة، وضمور المسمى الثقافي للإنسان، وتلاشي أصالته التي تشير إلى تاريخه وتراثه ومصادر قوته تجاه المجتمعات المباينة. ثالثا: منعطفات التجديد، وهو ما يطرأ على الهوية من إضافات بنيوية إما بنحو من التراكم التاريخي، او التأثير القسري، وكلاهما محل اختلاف واسع. يبدأ هذا صراع الهويات من إشكالية تحديد الهوية، وغالبا ما يتم تناول الهوية الوطنية والتي تمثل المحك الحقيقي لصراع الهويات، إذ تتجلى فيها أوجه الصراع بين الدين والعلمانية، وبقية الانتماءات القومية والقبلية، ومدى أولوية كل منها على الآخر، لذلك نجد أن الهوية الوطنية تتبدد وتذوب في الجوانب الدينية أو القبلية أو غيرها من الأطر التي تشكل هوية الإنسان. في الشرق الأوسط تحول الصراع من صراع ديني قومي، إلى صراع ديني علماني، وكلا النمطين من الصراع يؤثر بنحو بالغ في رسم معالم هوية الإنسان، بين كونه مسلما أو عربيا، أو علمانيا، مما ينعكس على الأوضاع السياسية، ومن الطبيعي أن تلعب السياسة دورا واضحا في ذلك الصراع كما أنها تتأثر به في الوقت نفسه، يتحول صراع الهويات إلى هاجس من المخاوف التي تسكن عقول النخب السياسية والثقافية على حد سواء، وتدفع تلك المخاوف إلى خلق أزمات سياسية على مستوى دولي ومحلي في مختلف البلدان. وتلك المخاوف تقف حاجزا منيعا أمام أي محاولة للتجديد، فالتطور سنة كونية، تجري على الفرد والمجتمع، وغالبا ما تحدث منعطفات في تشكل هوية الإنسان/المجتمع/ الأمة، وهو ما يمثل فضاءً خصبا للنقاش والحوار الفكري الذي يتحول أحيانا إلى صراعات وحروب باردة. وقد أثرت العولمة في أواخر القرن العشرين في تعميق المخاوف حول الهوية، فالنموذج الغربي حاول أن يعمم نماذجه الجاهزة في شتى بقاع العالم، نتيجة لتسليمه بأن النموذج الغربي يعد نموذجا نهائيا إلى حد ما، ويمكن تصديره إلى الأمم الأخرى، مما أنتج صراعا جديدا بين الهويات الراسخة والهويات الوافدة، وامتد ذلك في ميادين التفكير في العالم العربي وعلى صلة متينة بسؤال النهضة، وما افرزه من قراءات ومدونات طيلة نص قرن مضى. من المشكلات الرئيسة في هذا المجال هي ثنائية التحديات، فالتحديات التي تواجه الهوية على صعيدين: الأول: صراعات داخل الهوية، والمتمثل بصراع العناصر والمكونات، ومحاولات التغليب بين مكون الدين والعرق والقومية والقبلية وغيرها. الثاني: صراع خارج الهوية، والمتمثل بصراع الوجود، أمام موانع الاستمرار، فالعولمة بددت كثيرا من الخصوصيات، الدينية والثقافية والقومية..، والهوية تختزل خصوصيات بالغة الأهمية لأي أمة، أو مجتمع، والعلمانية من جهة أخرى تحاول فرض هوية أعلى وأشمل، تحت مسمى الإنسان، وهنا يكمن صراع بمسحات واسعة ومتنوعة، فلم تكتف العلمانية مثلا بفصل الدين عن السياسة، كما هو رائج، بل يمكن استحضار كثير من الشواهد على فصل الحياة عن كل الخصوصيات الدينية والثقافية ومحاولة تعميم نماذجها الغربية الجاهزة، كما فصل في ذلك المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية الغربية. ومن ناحية أخرى فإن ازدواج النظر إلى الهوية بين كونها وسيلة أو غاية، وعلى كلا الفرضين ثمة إشكاليات متفرعة، فيمكن أن توظف الهوية سياسيا، مما يفضي إلى تبديدها بنحو تدريجي، كما في توظيف العقائد الدينية في الصراعات السياسية التي من شأنها أن تضعف الهوية الدينية، من خلال النتائج العكسية التي يفضي إليها الفعل السياسي من خلال توظيفه السيء للعقائد الدينية. كما أن الخوض في وسائل شتى لتحقيق الهوية كغاية، يفضي إلى تبديدها أيضا، وهنا ربما لا يسع المجال إلى الخوض في تفاصيل كلا النمطين، لكن المهم هو كيفية تفادي تلك المخاوف، وهو ما يستدعي السعي إلى ضم المشتركات في عنوان جامع تتجلى فيه الهوية والنأي به عن مختلف الصراعات السياسية والثقافية، ولا يتسنى ذلك مالم يتم التعاطي مع الموضوع بنحو من الواقعية، والاعتراف بمساحات التنوع والاختلاف. إن الوعي السياسي الذي يقود إلى وعي مجتمعي ناضج من شأنه أن يبرز عناصر الهوية بنحو من العقلانية بعيدا عن التطرف المفضي إلى الصراع الذي من شانه أن يعمق فرص التبديد وفقدان الهوية. تمثل الهوية الجامعة إرثا حضارية أو ثقافيا هاما للأجيال اللاحقة، وهذا يستدعي رؤى استراتيجية من خلال مراكز أبحاث مختصة تسعى إلى تحقيق الأمن الفكري، من خلال رسم معالم لسلم الأوليات في البنى التي تتشكل منها الهوية، ولا يمكن التفريط بأي عنصر من عناصر الهوية مهما تعددت وتنوعت الثقافات والانتماءات، ويتحقق ذلك بأنحاء عدة: الأول: العمل والسعي من خلال المبادرات الجادة على مستوى السلطات والمؤسسات العلمية، والبدء بنحو استباقي. الثاني: الاستفادة من التجارب، والتراكم التاريخي، الذي تنتجه الأحداث علو مستوى المكاسب والخسائر عبر الزمن، مما يجعل المجتمع بشتى صنوفه مرغما على الاستجابة إلى متطلبات الهوية، وسبل حفظها وتطويرها، عبر استجلاء الخصائص والسمات الأصيلة في المجتمع، واستثمار الجديد مما يفرزه الحاضر من سمات إيجابية ممكن أن يتصف بها المجتمع. الثالث: كبح جماح التغليب، لأي عنصر على آخر، فلايمكن أن تنحصر الهوية على وفق الانتماء الديني أو القومي أو الطائفي أو القبلي..، ومحاولة الموازنة بين تلك الثنائيات دعما باتجاه الموائمة فيما بنها، وترتيبها طوليا بنحو لا يستدعي التعارض كما لو كان ترتيبها عرضيا، فالانتماء للقبيلة يأتي في طول الانتماء للقومية، والانتماء للقومية يأتي في سياق الانتماء للدين، مما يحقق نوعا من التوازن. الرابع: تجنب التطرف والغلو، على مستوى الدين أو المذهب، وحتى الانتماءات القومية والثقافية، فالتعصب غالبا ما تكون نتائجه عكسية، في مختلف المجالات. وثمة مداخل أخرى للموضوع تستدعي بحثا موسعا، وبهذا القدر يمكن أن تشكل هذه الورقة مدخلا أوليا، على أمل أن يتبع بمساحات معرفية أوسع. ***

*من الفرقة الناجية إلى المنهج المنجي* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

*من الفرقة الناجية إلى المنهج المنجي* د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

‏تناولت في كتابي السابق (فقه التكفير، دار سطور،2018) إشكالية (وعي) الفرقة الناجية والحديث الذي تم إيراده في كثير من المدونات الحديثية، وكيف تم إخضاع الوعي المسلم إلى وجود فرقة واحدة ناجية، ذلك الوعي الذي يعمق تصورا آخر مفاده أن الجميع مصيرهم إلى الهلاك، الا الذات المتبنية لفكرة الفرقة الناجية، إذ كل من يروي الحديث يعتقد بنجاة فرقته. فما هي الحاجة اليوم إلى ترديد مثل هذا الحديث؟ أليس من الضروري اليوم أن يتم بث الوعي إلى معرفة الطريق والمنهج المنجي من الأفكار المنحرفة والهدامة بدلاً من ادعاء ضمان النجاة من دون واقع مثبت لذلك..؟؟ ويمكن أن نعقد موازنة مع هذا التفكير نحو تفكير آخر يمكن أن يأتي ثماره باتجاه توجيه الوعي نحو المنهج المنجي تحت إطار التفكير العلمي الموضوعي الذي يطلب الحق في مختلف مستوياته العلمية والفكرية ودينية، على غرار قول امير المؤمنين (ع): (إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله)، ولقد كان الفضاء الفكري في العهود المبكرة من الإسلام - ولو في بعض مراحله- يقوم على أساس التخطئة والتصويب العلمي -لا الفقهي- وكما قال الشافعي رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب، فالمعيار هنا معيار علمي منهجي يقوم على أساس الخطأ والصواب لا على أساس الكفر والإيمان وهذا ما نحتاجه اليوم من تقبل الاختلاف، وقبول الآخر إنساناً محترما، غير مهدور الكرامة، مع اتاحة فرصة الحوار معه ودعوته بالتي هي أحسن إذا ما اقتضى الأمر لذلك. الموقف هنا ليس بالضد من حديث مروي -مع غض النظر عن مدى صحته أو ضعفه- بقدر ما هو موقف مرجِّح لأولية البحث عن المنهج المنجي، بدلا من النجاة الموظفة كشعار أيديولوجي مثبط لكل منابع التفكير النافع في مجال العلم والعمل. وعي المرحلة وظروفها المعرفية وما تمليه علينا من مواقف عملية ضروري جدا باتجاه بناء خطاب ديني معتدل بعيداً عن الخطاب المأزوم والمحتقن بكراهية كل ما حوله، والا فنحن أمام صناعة وعي كاره للدين وللآخر في الوقت ذاته، فالتطرف الديني يصنع أناساً كارهين لكل من يختلف معهم، ويصنع أناساً كارهين - أيضا- لأولئك الذين يحتكرون الحق والنجاة لهم دون غيرهم.. النجاة كلها في تدبر كتاب الله تعالى، والعمل بالصحيح من سنة نبيه وآله الطاهرين، بالاجتهاد واعمال العقل، من دون الاتباع الأعمى، الذي يصيب الأذهان بالكسل والعطل، والذي يطلب الحقيقة لا يمكنه الا أن يسلك أصعب السبل إليها، والامة التي لا تفكر لا ينتظرها التاريخ، بل يتركها في تقهقر دائم. ومن الضروري ونحن في فضاءات الاختلاف العقدي أن ندرك الفارق بين العقائد التي تمثل الأصول، والعقائد التابعة لها (الفروع)، وانكار الأصل غير إنكار الفرع، من حيث ترتيب آثار الكفر وما دونه من الأحكام الحادة، والاجتهاد فيها راجح، والتقليد الأعمى مذموم. ورواية الفرقة الناجية من الروايات المتداولة والمثيرة للجدل بسبب مضمونها المحتمل لأوجه متعددة من التأويل بالنحو الذي يجعلها سلاحاً مشتركا بين الفرقاء والخصوم, وفضلا عن الاختلاف الوارد في صحة سنده الرواية فإن متن الرواية لم يسلم من النقد طالما يؤسس إلى ثقافة الإقصاء واحتكار الحقيقة ونبذ الآخر, وربما لا يبدو هذا النقد سببا كافيا في ضعف الرواية لأنها خاضعة إلى وجهات نظر متعددة. وهنا أمثلة من التوظيف السلفي المتشدد لمتن هذه الرواية وكيفية تأويلها بالنحو الذي يخدم المقاصد التي يؤسس لها الإتجاه السلفي المتشدد. سئل ابن تيمية عن قوله (صلى الله عليه واله) وسلم : ..تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة.. ما الفرق؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف؟ فأجاب: (الحمد لله. الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، .. وفي رواية قالوا يا رسول الله من الفرق الناجية قال : (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي). وفي رواية قال (هي الجماعة يد الله على الجماعة). ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة و هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم (وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق و البدع و الأهواء. و لا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن أن تكون بقدرها. بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة. وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة... وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله. وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها), وهذا اقتباس موجز من حديثه عن دلالة الرواية, ومنه يتضح حصرها للفرقة الناجية في اهل السنة والجماعة وكونها الفرقة الوحيدة التي يمكن ان تمثل السواد الاعظم بين المسلمين. ويذكر محمد بن عبد الوهاب: (سميت الناجية لأنها نجت من النار، كل هذه الفرق في النار إلا هذه الفرقة، فهي الناجية من النار، وهذه أوصافها: أولا: أنها الناجية. ثانيا: أنهم أهل السنة، الذين يأخذون بالسنة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي تعني القرآن وتعني الأحاديث الصحيحة، ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، ولم يأخذوا بمذهب الجهمية أو المعتزلة أو الخوارج أو غيرهم من الفرق، إنما أخذوا منهج أهل السنة المتمسكين بالسنة. ثالثا: «والجماعة» ، سموا بالجماعة؛ لأنهم مجتمعون على الحق، ليس بينهم اختلاف، لا يختلفون في عقيدتهم، إنما عقيدتهم واحدة، وإن كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والمسائل الفرعية المستنبطة، فهذا لا يضر، الاختلاف في الفقه لا يضر؛ لأنه ناشئ عن اجتهاد، والاجتهاد يختلف، والناس ليسوا على حد سواء في ملكة الاجتهاد، أما العقيدة فإنها لا تقبل الاجتهاد، بل يجب أن تكون واحدة؛ لأنها توقيفية، قال تعالى: [إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]، هذه أمة واحدة لا تقبل الاختلاف، تعبد ربا واحدا، وفي الآية الآخرى: [وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿٥٢﴾ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]. فيبين أن أهل السنة والجماعة هم المقصودون في الرواية وبعد ذلك يحدد الاتجاه السلفي الإطار العام لأهل السنة والجماعة بالملتزمين بمنهج السلف. ولا تقتصر المشكلة على القراءة السلفية المتشددة، فالأوساط الأخرى من بقية المذاهب لها قراتها المشابهة من حيث النتيجة التي تمحو بها كل من يخالفها. ***

*وحدة النوع الانساني وسنة  التعدد والاختلاف, قراءة موازنة في إطار الفهم القرآني* ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي, كلية الفقه جامعة الكوفة

*وحدة النوع الانساني وسنة التعدد والاختلاف, قراءة موازنة في إطار الفهم القرآني* ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي, كلية الفقه جامعة الكوفة

في إطار القيم القرآنية تتجلى مفاهيم مركزية تؤسس إلى تنظيم فهم الإنسان لطبيعته وحقيقته, والقرآن الكريم يقدم نماذج وجودية مختلفة, أبرزها ما يتعلق بالإنسان وسلوكه الفردي والجمعي على حد سواء, وجرت العادة في النظر والبحث حول الأخلاق الفردية من دون الإمعان في أخلاق الأمم والجماعات, وهنا يأتي السؤال حول مدى إمكان استجلاء القيم الأخلاقية التي تنظم سلوك الجماعة بما هي جماعة, وتخلق توازنا بين مكتسبات وجودها, وتنظيم علاقتها فيما بينها, وهنا يأتي الحديث عن قيم عليا (حاكمة), وأخرى (خادمة), والقيم الحكامة هي ما يهدف إليه الخلق, وينتظم في أفقه, والقِيَم الخادمة هي تلك القِيَم الوسيلة أو الأداتية التي تُكتسب أهميتها من كونها تَخدم قِيَمًا أسمى أو غائية, فإذا كانت القِيَم الحاكمة/العليا تختص بتحديد “لماذا نعيش؟” أو “ماذا نريد أن نحقق؟”، فإن القِيَم الخادمة تُعنى بـ“كيف نصل؟” و“بأي سلوك وأدوات؟”. وهي تتغيّر بتغيّر السياق والاحتياج، بينما تظل القِيَم الحاكمة أكثر ثباتًا وتجذّرًا في الضمير الجمعي. يؤسس القران الكريم الى وحدة النوع الانساني من خلال قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) وقال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) , وقال رسول الله (ص) : (لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى), وبذلك ينتفي التمييز العنصري، ونفتح أبواب الوحدة الإنسانية البعيدة عن التعصب للجنس أو اللون، أو العصبية الجاهلية، وبذلك تُزال الحواجز الجنسية واللونية واللغوية بين العباد وتوثق بينهم الوحدة الإنسانية. بينما الاختلاف والتعدد من الموضوعات المهمة التي تناولها القرآن الكريم، إذ عبّر عنها في سياقات مختلفة، تدل على سُنّة كونية واجتماعية، وعلى تنوّع خلق الله، ترسخ فيما بعد، قيم التسامح والتعارف والابتلاء والإرادة الإلهية, ويمكن استجلاء الاختلاف والتعدد في القرآن الكريم من زوايا متعددة: 1. الاختلاف سنة من سنن الله في الكون قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم: 22) يشير القرآن الكريم إلى أن التعدد اللغوي واللوني من آيات الله، أي أن الاختلاف في أصل الخلقة مقصود ومحمود. 2. الاختلاف في الدين والتشريع, قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (المائدة: 48), والتعدد في الشرائع يعبر عن الاختبار الذي يتضمن التنافس الايجابي, من خلال قوله فاستبقوا الخيرات. 3. الاختلاف في وجهات النظر والمواقف, قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99), فالإيمان والاختيار جزء من حرية الإنسان، والله لم يفرض الإيمان على الناس رغم قدرته، احترامًا لحرية الاختيار والاختلاف. 4. التنوع في الخلق والطبيعة, قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ" (فاطر: 27), فيبيّن أن التعدد والاختلاف في الطبيعة هو مظهر من واقع الخلقة والفطرة. 6. الحث على التعارف وقبول الآخر, قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13), يقرّ التعدد القبلي والاجتماعي، ويجعله وسيلة للتعارف لا للتنازع، لذلك تبرز أهمية إدارة الاختلاف في شتى مستوياته. فالاختلاف والتعدد في القرآن الكريم ليسا مدعاة للصراع أو الإقصاء، بل يمثلان سُنّة كونية واجتماعية، وعنصر من عناصر الاختبار للانسان. إذن نحن أمام نقطتين, الأولى ترسخ مبدأ الوحدة, والأخرى ترسخ مبدأ التعدد, وحتى يتم الفهم لكلتا النقطتين, لابد من وعي أن القرآن الكريم يتعامل مع واقع البشر بنحو من الواقعية, فسنة الاختلاف ظاهرة, ووحدة النوع أقل حضورا وشهودا, لذلك فإن البشر بطبيعتهم يتنازعون من منطلق الاختلاف والتمايزات, لذا يؤسس القرآن الكريم إلى ضرورة فهم الاختلاف كمعطى طبيعي للخلق, وضرورة إدارة الاختلاف وتجاوزه بعد إدراك وحدة الأصل والنوع, ومع ذلك كله أسس إلى قيم الجماعة, التي يمكن أن تتجاوز أطر الشرائع والمذاهب من خلال العدل والقسط, في قوله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"(الحديد: 25), ولفظ الناس يشمل جميع الناس, والقِسط في القرآن الكريم هو أحد المفاهيم المركزية التي تعبّر عن العدل التام والإنصاف المطلق، ويرتبط غالبًا بأوامر إلهية تتعلق بالحكم، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، ويُستخدم للدلالة على الميزان الدقيق الذي لا ظلم فيه, وفي إطار تنتظم العلاقة مع الآخر المختلف كما في قوله تعالى: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) . وعلى وفق هذه النماذج الموجزة, مكن إدراك مدى إمكان استجلاء القيم التي تُؤسّس لأخلاق الأمم، والتي غالبًا ما تتداخل مع موضوعات التشريع والقوانين الدولية، غير أنها تعبّر عن رؤية كونية شاملة لمسار الإنسان في الحياة، من خلال قوانين عامة وسنن ثابتة. فلا يمكن أن يتحقق السِّلم من دون حُسن إدارة التعدد، وتجاوز الانتماءات الضيقة إلى انتماءات أرحب، قادرة على استيعاب مختلف الفئات الإنسانية ضمن إطار جامع. وإن الحُكم الرشيد هو ذلك الذي يُحسن إدارة الاختلاف، ويجمع بين الناس دون أن يُفرّقهم أو يُشتّتهم، في ظل منظومة من القيم المشتركة التي تؤسس للعيش المشترك وتُعلي من شأن الكرامة الإنسانية.