image

د. اسعد عبد الرزاق

باحث في الشأن الديني المعاصر / العراق / النجف الاشرف

post

*وحدة النوع الانساني وسنة التعدد والاختلاف, قراءة موازنة في إطار الفهم القرآني* ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي, كلية الفقه جامعة الكوفة

في إطار القيم القرآنية تتجلى مفاهيم مركزية تؤسس إلى تنظيم فهم الإنسان لطبيعته وحقيقته, والقرآن الكريم يقدم نماذج وجودية مختلفة, أبرزها ما يتعلق بالإنسان وسلوكه الفردي والجمعي على حد سواء, وجرت العادة في النظر والبحث حول الأخلاق الفردية من دون الإمعان في أخلاق الأمم والجماعات, وهنا يأتي السؤال حول مدى إمكان استجلاء القيم الأخلاقية التي تنظم سلوك الجماعة بما هي جماعة, وتخلق توازنا بين مكتسبات وجودها, وتنظيم علاقتها فيما بينها, وهنا يأتي الحديث عن قيم عليا (حاكمة), وأخرى (خادمة), والقيم الحكامة هي ما يهدف إليه الخلق, وينتظم في أفقه, والقِيَم الخادمة هي تلك القِيَم الوسيلة أو الأداتية التي تُكتسب أهميتها من كونها تَخدم قِيَمًا أسمى أو غائية, فإذا كانت القِيَم الحاكمة/العليا تختص بتحديد “لماذا نعيش؟” أو “ماذا نريد أن نحقق؟”، فإن القِيَم الخادمة تُعنى بـ“كيف نصل؟” و“بأي سلوك وأدوات؟”. وهي تتغيّر بتغيّر السياق والاحتياج، بينما تظل القِيَم الحاكمة أكثر ثباتًا وتجذّرًا في الضمير الجمعي.
يؤسس القران الكريم الى وحدة النوع الانساني من خلال قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) وقال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) , وقال رسول الله (ص) : (لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى), وبذلك ينتفي التمييز العنصري، ونفتح أبواب الوحدة الإنسانية البعيدة عن التعصب للجنس أو اللون، أو العصبية الجاهلية، وبذلك تُزال الحواجز الجنسية واللونية واللغوية بين العباد وتوثق بينهم الوحدة الإنسانية.
بينما الاختلاف والتعدد من الموضوعات المهمة التي تناولها القرآن الكريم، إذ عبّر عنها في سياقات مختلفة، تدل على سُنّة كونية واجتماعية، وعلى تنوّع خلق الله، ترسخ فيما بعد، قيم التسامح والتعارف والابتلاء والإرادة الإلهية, ويمكن استجلاء الاختلاف والتعدد في القرآن الكريم من زوايا متعددة:


  • الاختلاف سنة من سنن الله في الكون

  • قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم: 22) يشير القرآن الكريم إلى أن التعدد اللغوي واللوني من آيات الله، أي أن الاختلاف في أصل الخلقة مقصود ومحمود.
  • الاختلاف في الدين والتشريع, قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (المائدة: 48), والتعدد في الشرائع يعبر عن الاختبار الذي يتضمن التنافس الايجابي, من خلال قوله فاستبقوا الخيرات.

  • الاختلاف في وجهات النظر والمواقف, قوله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99), فالإيمان والاختيار جزء من حرية الإنسان، والله لم يفرض الإيمان على الناس رغم قدرته، احترامًا لحرية الاختيار والاختلاف.

  • التنوع في الخلق والطبيعة, قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ" (فاطر: 27), فيبيّن أن التعدد والاختلاف في الطبيعة هو مظهر من واقع الخلقة والفطرة.

  • الحث على التعارف وقبول الآخر, قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13), يقرّ التعدد القبلي والاجتماعي، ويجعله وسيلة للتعارف لا للتنازع، لذلك تبرز أهمية إدارة الاختلاف في شتى مستوياته.

  • فالاختلاف والتعدد في القرآن الكريم ليسا مدعاة للصراع أو الإقصاء، بل يمثلان سُنّة كونية واجتماعية، وعنصر من عناصر الاختبار للانسان.
    إذن نحن أمام نقطتين, الأولى ترسخ مبدأ الوحدة, والأخرى ترسخ مبدأ التعدد, وحتى يتم الفهم لكلتا النقطتين, لابد من وعي أن القرآن الكريم يتعامل مع واقع البشر بنحو من الواقعية, فسنة الاختلاف ظاهرة, ووحدة النوع أقل حضورا وشهودا, لذلك فإن البشر بطبيعتهم يتنازعون من منطلق الاختلاف والتمايزات, لذا يؤسس القرآن الكريم إلى ضرورة فهم الاختلاف كمعطى طبيعي للخلق, وضرورة إدارة الاختلاف وتجاوزه بعد إدراك وحدة الأصل والنوع, ومع ذلك كله أسس إلى قيم الجماعة, التي يمكن أن تتجاوز أطر الشرائع والمذاهب من خلال العدل والقسط, في قوله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"(الحديد: 25), ولفظ الناس يشمل جميع الناس, والقِسط في القرآن الكريم هو أحد المفاهيم المركزية التي تعبّر عن العدل التام والإنصاف المطلق، ويرتبط غالبًا بأوامر إلهية تتعلق بالحكم، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، ويُستخدم للدلالة على الميزان الدقيق الذي لا ظلم فيه, وفي إطار تنتظم العلاقة مع الآخر المختلف كما في قوله تعالى: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) .
    وعلى وفق هذه النماذج الموجزة, مكن إدراك مدى إمكان استجلاء القيم التي تُؤسّس لأخلاق الأمم، والتي غالبًا ما تتداخل مع موضوعات التشريع والقوانين الدولية، غير أنها تعبّر عن رؤية كونية شاملة لمسار الإنسان في الحياة، من خلال قوانين عامة وسنن ثابتة.
    فلا يمكن أن يتحقق السِّلم من دون حُسن إدارة التعدد، وتجاوز الانتماءات الضيقة إلى انتماءات أرحب، قادرة على استيعاب مختلف الفئات الإنسانية ضمن إطار جامع.
    وإن الحُكم الرشيد هو ذلك الذي يُحسن إدارة الاختلاف، ويجمع بين الناس دون أن يُفرّقهم أو يُشتّتهم، في ظل منظومة من القيم المشتركة التي تؤسس للعيش المشترك وتُعلي من شأن الكرامة الإنسانية.