image

د. اسعد عبد الرزاق

باحث في الشأن الديني المعاصر / العراق / النجف الاشرف

post

*المنهج القراني في مواجهة ظاهرة الالحاد في المجتمعات الاسلامية *

*المنهج القراني في مواجهة ظاهرة الالحاد في المجتمعات الاسلامية *
ا.م.د اسعد عبد الرزاق الاسدي
مدخل:
في الغالب يُتصور أن الإلحاد لا يمكن أن يواجه بكتاب سماوي, بل بأدلة عقلية صرفة, لكن الواقع يجانب هذا التصور, من خلال إدراك أمرين:
الأول: أن منشأ الإلحاد غالبا ما يكون الإنكار العقلي, لكن الإنكار العقلي لا يعني بالضرورة حصر الإثبات بالعقل فقط, لأن طبيعة التفكير العقلي المحض, ذات وظيفة مزدوجة, من خلال النفي والثبات المتعاقب, مع تعدد الاعتبارات الذهنية, وزويا النظر الى القضايا, لذا يمكن إثبات القضايا بدليل وجداني فطري.
الثاني: يقدم القرآن الكريم – برغم كونه خطابا سماويا- أساليب متعددة في إثبات الغيب, من خلال وسائل وقائية, تمنح الإنسان ممانعة من الإنحراف والانكار, ووسائل علاجية, من خلال إحياء فطرة الإنسان المغروسة في عمق وجدانه, وهو ما تؤكده سيرة الأنبياء التي لم تقتصر على الحجاج العقلي, بل يغلب عليها الطابع الروحي, والتأثير الوجداني.
إن القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأساس, ولكا كان هاديا لأقوام مشركة, ووثنية, فهو جدير بأن يكون مؤثرا حتى في الملحدين, سوى ما كان من قبيل العناد والاصرار على الكفر, فالحجة البالغة ليس من شأنها تغيير الحال بالضرورة.
من هنا نحاول أن نطرح المنهج القرآني في مواجهة ظاهرة الإلحاد في المجتمعات الاسلامية من خلال مستويين, مستوى الوقاية, ومستوى العلاج, وهو ما سوف نعرض له في المحورين في أدناه:
أولاً: المنهج القرآني في الوقاية من الإلحاد
يمكن استجلاء المنهج القرآني في الوقاية من الإلحاد, من خلال عرض لمواقف ثلاث:
  • استحضار الرؤية الكونية في القرآن الكريم

  • يقصد بالرؤية الكونية عموما، الموقف الفكري من الكون، على مستوى التفسير، ويلتقي مع أسئلة الانسان الوجودية، من اين وفي اين والى اين، وجملة الاسئلة المتعلقة بالخلق وقوانينه.
    ان تسلح الانسان برؤية كونية راسخة يمنحه ممانعة تجاه القلق الوجودي والعقدي، واحدى وظائف الدين هي تفسير الكون والحياة بما يمنح الانسان تصورا كليا حول طبيعة وجوده.
    ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].
    تشير هذه الاية الى سعة ما يحيط الانسان من خلق السموات والارض بالنحو الذي يجعل الانسان قادرا على التأمل في خلق الله تعالى،
    ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
    والاية هنا تعد بإمكان رؤية الانسان لآيات الله تعالى في خلقه، باتجاه توثيق الصلة بين الله تعالى والانسان من خلال اثار خلق الله تعالى في الافاق وفي نفس الانسان التي تختزل عالما مثيرا للدهشة، ويؤيد ذلك قوله تعالى
    ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 20–21]، إذ تشير الى ضرورة التفكر بالانفس، لكونه أحد المفاتيح الهامة في التبصر والتفكر في عظمة الخلق..
    القرآن يوجّه الإنسان إلى النظر في الكون بوصفه كتابًا مفتوحًا ينطق بوجود الخالق ووحدانيته.
    فـ"الآيات الآفاقية" (في السماوات والأرض) و"الآيات الأنفسية" (في خلق الإنسان ذاته) تُكوّن رؤية كونية شاملة تدحض فكرة المصادفة والعبث.
    منهج القرآن في هذا السياق وقائيّ بامتياز: فهو يربط بين الإيمان والعلم، وبين التفكر والتوحيد، ليجعل العقل في انسجام مع الوحي لا في صدام معه.
    فمن يتأمل في دقة الكون وتوازن عناصره، كما تصفها هذه الآيات، يدرك أن هذا الإبداع لا يمكن أن يكون بلا مبدع.

  • ترسيخ مقاصد الخلق

  • غالبا ما يسأل الانسان ويتساءل عن الغاية من خلقه، وثمة ايات عدة، تتضمن مقاصد الخلق، وان الانسان لم يخلق عبثا، وانما لغايات عدة، كما يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ [المؤمنون: 115].
    والعبادة كأوضح الغايات التي خلق من أجلها الانسان واضحة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وليست العبادة مقتصرة على اعمال محددة، بل كل ما يرضي الله تعالى يمكن أن يكوم في سياق العبادة، اذا ما قصده الانسان قربة الى الله تعالى، في كل فعل يحقق الخير وما يريده الشرع الحنيف.
    ومن جهة أخرى تتضح غاية أخرى تتمثل في ضرورة فهم الحياة كمحطة اختبار، كما يؤكد ذلك قوله تعالى:
    ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].
    ولم يخلق الانسان في الحياة من دون رسالة وهدف، بل ليؤدي رسالة قيمة وهي القيام بالقسط، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
    وكل شيء يخضع للقسط والعدل، لأن طل شيء خلقه الله بقدر، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
    هذه الآيات تحدد مقاصد الخلق في القرآن ضمن ثلاث دوائر أساسية:
  • دائرة العبادة والمعرفة:

  • خلق الإنسان والجن ليعبدوا الله معرفةً وخضوعًا وطاعةً، فالعبادة هي التعبير العملي عن الوعي بالخالق.
  • دائرة الابتلاء والاختبار:

  • خلق الموت والحياة ليُختبر الإنسان في عمله وسلوكه، وهو ما يمنح للوجود معنى أخلاقيًّا وقيميًّا.
    فالإنسان ليس عبثًا في الوجود، بل ممتحن في مدى وعيه بغاية وجوده.
  • دائرة العدل الاجتماعي:

  • مقصد الخلق يتجاوز البعد الفردي, ويمتد إلى قيام المجتمع على القسط والعدالة، وهو ما يعطي للإيمان بعدًا إنسانيًّا واجتماعيًّا.
    إذن، مقاصد الخلق في القرآن تشكل آلية وقائية من الإلحاد لأنها تجيب عن سؤال الوجود والغاية الذي يُعدّ مركز الشك الإلحادي.
  • ترسيخ مبادئ الاستخلاف والتمكين

  • كما أن للإنسان غايات فله وظائف مترتبة على تلك الغايات، وتأتي وظيفة الانسان في سياق تحقيق المقاصد الإلهية من خلال الاستخلاف، فيقول الباري عز وجل: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].
    وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165].والاستخلاف ينطوي على العمل الصالح، من خلال صلاح الأنفس، وصلاح الأرض، كما يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [النور: 55].
    وقيمة الانسان في ما يؤديه من تلك الوظائف لينال وعد الله تعالى، وهو مكرم ما دام يعمل صالحا، لأداء مهمة صلاحه وصلاح الأرض بالعمران، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 70].
    وعمارة الأرض كما في قوله تعالى:﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].
    فالاستخلاف مبدأ قرآني يرفع الإنسان من موقع "الكائن الضعيف" إلى موقع "المسؤول عن التعمير والإصلاح".
    بهذا المعنى، يمكن الجزم أن التمكين والاستخلاف علاجان للفراغ الوجودي الذي يعد أحد مولدات الإلحاد، لأنهما يربطان الإنسان بمهمة نبيلة وغاية كبرى.
    القرآن الكريم يقدم الإيمان كمشروع حضاري، يقوم على أسس منها: العمل، والإعمار، والعدل، وبناء الإنسان.
    فمن أدرك أنه خليفة الله في الأرض، لم يعد يشعر باللاجدوى أو العدمية التي تفضي إلى الإلحاد.


    ثانياً: منهج القرآن الكريم في علاج الإلحاد
    في القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتضمن الحوار والاستدلال مع المنكرين, وهذه الآيات على أصناف ثلاثة :
  • أيات الحوار المفتوح من دون قيود.

  • آيات الاستدلال بالعقل واستمالة الفكر.

  • آيات الاستدلال بالوجدان واستمالة القلب.


  • فتح الحوار بالتي هي أحسن

  • ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
    ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46].
    ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ﴾ [الكهف: 37].
    ﴿وَجَادَلْنَاهُ بِقَوْمِهِ﴾ [هود: 74].
    الحوار في القرآن الكريم يتجنب الجدل العقيم ويفتح طريق الاإقناع بالحسنى, فهو يجمع بين الرفق العقلي والرحمة القلبية, والحكمة هي البرهان العقلي، والموعظة الحسنة هي الترغيب القلبي، والجدال بالتي هي أحسن هو ردّ الشبهة من غير عنف، فجمعت الآية اسليب ثلاثة: العقل، الوجدان، والحوار..
    يوضح القرآن الكريم أن الحوار مع المنكرين ينبغي أن يُبنى على:
  • احترام حرية الفكر.

  • تدرّج الخطاب من البيان العقلي إلى التأثير الوجداني.

  • التركيز على القيم المشتركة قبل الاختلافات.

  • وهذا المنهج هو ما نفتقده أحيانًا في واقعنا المعاصر، إذ يغلب التشنج أحيانا في بعض الخطابات.
  • الاستدلال بالعقل واستمالة الفكر

  • من براهين التمانع، قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22], أي لو كان للعالم أكثر من إله لاختلف النظام، فاختلال النظام دليل التعدد، وانتظامه دليل الوحدانية.
    وقوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111], وهنا تحدٍ عقلي يراد به إلزام الخصم بالبرهان، وهو مبدأ قرآني للحوار العلمي.
    وقوله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10], سؤال استنكاري, ويثير التفكر في الوقت نفسه, ومثله قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35].
    فالآية احتجاج عقلي على ضرورة الخالق، فهي تستعمل برهان الحدوث، إذ لا يمكن للموجود أن يوجد من العدم أو يخلق نفسه.
    ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [يونس: 101].
    القرآن لا يعارض العقل بل يحتكم إليه في إثبات العقيدة.
    فهو يقدّم أدلة عقلية متدرجة:
    دليل التمانع (الأنبياء: 22) لإثبات وحدانية الله.
    دليل الحدوث والإمكان (الطور: 35) لإبطال القول بالخلق من غير خالق.
    دليل النظر الكوني (يونس: 101) لترسيخ الإيمان عبر التأمل العلمي في الكون.
    بمثل تلك الآيات يربط القرآن الكريم بين الفكر والاعتقاد، ويحوّل الإيمان من تسليم جامد إلى يقين نابع من التفكر.
  • الاستدلال بالوجدان واستمالة القلب:

  • الفطرة هي المعرفة بالله التي جُبل عليها الإنسان، والإيمان بالدين هو رجوع الإنسان إلى مقتضى فطرته, ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30], وهذه الفطرة عندما خلقها الله تعالى عرفها طريق الخير والشر وهو ما يمكن معرفته بإلهام فطري، فدلّها على سبيل السعادة والشقاء, ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7–8].
    والإيمان ينطوي على الطمأنينة, والطمأنينة هي سكون النفس بعد القلق، فلا تهدأ القلوب إلا بذكر الله لأن الفطرة لا تجد السكينة إلا في مبدئها الأول, ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 28].
    ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9].
    ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: 6].
    فالقرآن الكريم يعالج الإلحاد أيضًا من مدخل الوجدان الإنساني والفطرة، فالإيمان مغروس في كيان الإنسان، والشك حالة عارضة.
    والمنهج القرآني هنا يقوم على:
    • تذكير الإنسان بفطرته الأولى التي تعرف خالقها بالفطرة.
    • إثارة الحس الأخلاقي (الفجور والتقوى) الذي يدرك الخير والشر.
    • ربط الإيمان بالسكينة القلبية؛ إذ يقدّم القرآن الإيمان كطريق للطمأنينة لا للتوتر.
    • فالعلاج الوجداني يعيد الإنسان إلى ذاته بعد أن غُيّبت في ضجيج المادة.
    يُعالج القرآن الكريم ظاهرة الإلحاد عبر دعوة الإنسان إلى إعمال عقله، وطلب البرهان، والنظر المتأمل في آفاق الكون ومسيرة التاريخ, فالإيمان بالله – في المنظور القرآني – خيار حر وليس فكرة ذهنية مفروضة على الانسان، بل دعوة مفتوحة تقوم على القناعة القلبية والتسليم العقلي، وينعكس ذلك التزامًا بمنهج وشرائع الدين, أمّا الإلحاد فهو امتناع عن هذا التصديق ورفض للانقياد للحق.
    ويُوضح القرآن الكريم أن الإلحاد ليس غياب للإيمان فحسب، بل فعل جحود وإنكار يأتي بعد وضوح الدلالات وكثرة الشواهد، وهو ما يجعله موقفًا متناقضًا مع الفطرة السليمة التي تشهد بوجود الخالق, فالإيمان، كما يقدمه القرآن الكريم، تجربة روحية وعقلية متكاملة توحّد القلب والعقل في إدراك الحقيقة، بينما يُصوَّر الإلحاد على أنه إنكار للبينات وتجاهل للآيات الظاهرة، لا عن نقصٍ في الأدلة، بل عن رفض داخلي للحقيقة نفسها.