
*قراءة في كتاب: (المحاضرة الحسينية بين هيمنة الواقع ومتطلبات التجديد)* د.اسعد عبد الرزاق الأسدي
مدخل: تُعد الخطابة عنصراً هاماً في حياة الشعوب والمجتمعات على مدى تاريخ الحضارات, ومؤثرا فاعلا في بناء ثقافة المجتمع, ومنذ بدايات عهد التفاعل الثقافي الاجتماعي كانت الخطابة وسيلة أساس في تصدر النخبة المثقفة والواعية إلى واجهة المجتمع ليكونوا فاعلين ومؤثرين في مجتمعهم, والحضارة الاسلامية لم تكن بمعزل عن بقية الحضارات في تشكل فن الخطابة وبات يُدرس فن الخطابة في ضمن فنون الأدب ومجالاته. وعلى المستوى الاسلامي برز انموذج الخطابة الحسينية أو المحاضرة الحسينية بنحو مميز وملفت للدراسة والتحليل, ويعود ذلك لطبيعة الأثر البالغ الذي تركته الخطابة الحسينية في نفوس أتباع المذهب الإمامي, وانعكست تلك الآثار على سلوك الفرد والمجتمع, من عصور توالت وإلى عصرنا الراهن, ومن الجدير أن تتم ملاحظة أن الخطابة الحسينية اليوم تمثل أهم مصدر من مصادر المعرفة الدينية, بعد أن قلّت نسبة المطالعة وقراءة الكتب, وحتى رجل الدين العالم بشؤون وعلوم الدين لا يمكنه الوصول الى وعي المجتمع مالم يمارس الخطابة, والناس على مرأى ومسمع مما يقدمه الخطباء من خطاب ديني سواء بنحو مباشر من مجالسهم, أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي تتضمن مئات المقاطع التي يمكن لأي شخص الاطلاع عليها وسماعها. إن هذه الظاهرة تستدعي الدراسة والتحليل, لأهميتها في ثقافة المجتمع على المستوى الديني, وثمة دراسات في هذا المجال لكنها نادرة نسبياً, لذا شغل اهتمامي كتاب صدر في هذا العام (1443هـ-2022) لصديق لي وهو الخطيب الدكتور علاء الفاضلي, الذي بذل جهدا مميزا وملفتاً للملاحظة والنظر, لكونه تناول جانباً بالغ الأهمية والذي يتضح من خلال عنوان الكتاب: (المحاضرة الحسينية بين هيمنة الواقع ومتطلبات التجديد), مما دفعني الى قراءته بنحو من الدقة والتحليل قدر الامكان, ولا يخفى أن لكل جهد علمي أو ثقافي نقاط قوة وضعف, لذا فالقراءة هنا ليست بصدد تقييم الجهد بقدر ما هي قراء تقريرية تحلل الموارد الهامة التي تستحق التحليل والابراز على الواقع الراهن الذي يتضمن مشكلات كثيرة تتصل بوعي المجتمع ومصادر ثقافته ونوعها من جهة, وبواقع الخطابة والخطيب ودوره في المجتمع ونوع المعرفة التي يقدمها من جهة أخرى. وسوف أتناول الكتاب على وفق الفقرات الآتية: منهج الكتاب: ثمة ملامح عامة لمنهج الكتاب تضمنت تمهيدا وفصول, فكان التمهيد يتناول واقع المجالس الحسينية في بعض بلدان العالم, أبرزها العراق وايران ولبنان واوربا, وكان لترحال الكاتب وكونه أحد الخطباء دورا هاما في وصف وتحليل واقع المجالس الحسينية في تلك البلدان, إذ تناول بالتحليل خصائص الخطابة الحسينية في تلك البلدان, موضحا مواضع القوة والضعف في كلٍ منها, وهي محاولة جريئة بعض الشيء من قبل الكاتب, فنادرا ما يجرؤ من داخل الوسط الخطابي من يدرس واقع الخطابة بنحو من الموضوعية والتجرد وهو ما يحسب للكاتب طبعا. أما فصول الكتاب فقد تناول الفصل الأول (من هو الخطيب؟) وهو عنوان فيه قدر بالغ من الاثارة لسبب كونه عنوانا يستبطن تساؤلا هاما حول هوية الخطيب وما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من مواصفات, والذي تميز فيه الكاتب هو رؤيته وقراءته لواقع الخطيب من خارج وسط الخطابة, إذ تناول مجال الخطابة من خارج المجال فضلا عن كونه أحد خطباء الوسط, وكأنه تجرد عن كونه خطيبا ليمارس نظرا فكرياً من الخارج وبوصفه باحثاً متجردا في مجال الخطابة, وهو ما أثار بطبيعة الحال بعض ردود الأفعال حول الكتاب.. واسترسل الكاتب في تناول اسس الخطابة وإعداد المحاضرة الحسينية, وكيف ينبغي أن يكون الأسلوب الخطابي, وما هي صفات الخطيب الناجح, معرجّا على رباعية هامة ومفصلية تتعلق بالجانب العقلي والبياني والنفسي والعلمي. وتناول في الفصل الثاني (أهمية القصة في المحاضرة الحسينية) من خلال بيان أهداف القصة وصنوفها الواقعية والاجتماعية والرمزية والتاريخية والطريفة والشعرية, وهي أهم مجالات القصة في الخطابة الحسينية, ودورها الهام في استقطاب الجانب العاطفي للمجتمع وتوظيفها في ايصال رسالة الخطيب. أما الفصل الثالث فقد تناول: (أثر الدراسات العلمية في المحاضرة الحسينية) والذي تضمن موضوعات هامة في تداخل العلوم الانسانية مع مضمون الخطابة الدينية الذي لا يقتصر على بيان المعارف الدينية فحسب, بل يتجاوز ذلك إلى أثر علم النفس والاجتماع في تحليل ظواهر سلوك الفرد والمجتمع والاسرة, وكأن الكاتب يدرك جيدا أهمية تلك المجالات في توظيف المعرفة الدينية وتقديمها للمجتمع لتكون الخطابة هادفة ونافعة للواقع الاجتماعي. وتناول في الفصل الرابع: (كيف تقنع الآخرين بأفكارك) وهو عنوان يستبطن سؤالا وإجابات تتضمن وسائل الاقناع, التي يحتاج إليها كل خطيب يحاول الوصول والتأثير في المتلقي, وهو ما يفتقده كثير من الخطباء, إذ تعد تلك المسألة ضرب من الفن, من أجل تحقيق عملية التلقي, ودراسة واقع الجمهور الذي يتوقع منه التفاعل مع مضامين الخطبة. وقد كانت تلك الفصول الأربعة ضمن الباب الأول في حين تضمن الباب الثاني نماذج تطبيقية لمحاضرات أعدها الخطيب مسبقا بهدف تقديم الأنموذج الذي يسعى الى تحقيقه الكاتب في كتابه, مما يشير الى أن الكاتب لم يكن بصدد النقد بل كان بصدد تقديم الحلول والنماذج قدر الامكان. طبيعة الطرح في الكتاب: وهنا الجانب الأهم حيث عرض الكاتب إلى جملة من المشكلات بالتحليل والنقد والتقويم, وهو ما يميز جهده إذ وقف على نقاط هامة منها: 1- الواقعية في طرح المشكلة, من دون تعدٍ على ثوابت ومسلمات الرسالة التي أنيطت بالخطاب الحسيني, إذ تناول الكاتب مسائل حرجة من خلال اسئلة حرجة أثارها بنحو من التجرد الذي يمليه عليه أسلوب البحث العلمي, من خلال عرضه لمشكلات الاعلام وواقع بعض الفضائيات الدينية التي تنقل كثير من المحاضرات الدينية على أنظار ومسامع الناس, وأهم الهواجس التي شغلت الكاتب هي مشكلة تجهيل الناس من خلال بعض ما يطرح على المنبر الحسيني, ومدى خطورته في واقع المجتمع, وهذه المشكلة تحتاج الى جرأة حكيمة في الطرح وهو ما توخاه الكاتب ووفق إليه نسبيا, وتصدى له بنوع من الهدوء الذي يمليه الظرف الراهن المشحون بالحساسية تجاه أي محاولة للنقد والتصحيح. 2- توظيف التخصص في علم النفس والتربية, فقد وظف الكاتب تخصصه في علم النفس والتربية, ليحاول أن يتناول مشكلات الخطابة من خلال دراسة علمية لعملية التأثير في المجتمع, ولما يشغله دور الخطيب من مسؤولية بالغة الأهمية والخطورة في الواقع الاجتماعي والديني, سعى الكاتب إلى تحليل الهفوات وايضاح العلاجات عبر ثوابت ومسلمات علم النفس والتربية, كما في تناوله لأسلوب الخطيب ولغة جسده على المنبر ووسائل بيانه وإيضاحه. 3- ربط المشكلة بإطار أوسع, من خلال تناوله للخطاب الديني, وهي مسألة طالما بحثها المختصون بالشأن الديني, وما تنعكس عنها من تداعيات هامة وخطيرة في الوقت نفسه, فالخطاب الديني يتجلى في المرئي والمسموع, والخطابة تكاد تتصدر مشهد الخطاب الديني, فالناس عازفون عن القراءة ومطالعة الكتب, في حين يتسع المجال الى الخطيب لكي ينقل مضامين الخطاب الديني من المصادر والكتب الى الناس, مما يفضي الى أهمية دور الخطابة في تصدير نوع الخطاب الديني الى المجتمع, والاعلام الديني اليوم يتكئ بنحو شبه أساس على ما يقدمه الخطيب على المنبر من معارف دينية, تؤثر بطبيعتها على سلوك وثقافة المجتمع, ومدى انتفاع الناس من تلك المضامين, وللأسف كانت بعض تلك المضامين مما لا يعود على المجتمع بأي فائدة, ومنها ما يحمل خطاباً طائفياً, يحرض على العنف والاقصاء, وقد ألمح وأشار الكاتب الى تلك المشكلة وعرض إلى أنموذج بالغ الأهمية وهو ما كان يقدمه الشيخ الدكتور أحمد الوائلي طيلة حقبة التسعينيات من القرن الماضي, إذ قدم خطابا علميا يتميز بالموضوعية والرصانة, بعيدا عن النعرات الطائفية, وهو ما يحتاجه المجتمع اليوم الذي بات يغص في الجدل والصراع الفكري بين مختلف اتجاهات الفكر الديني, لذا تمثل هذه المسألة منعطفا بالغ الأهمية في توجيه مسار الخطابة الحسينية بنحو يساعد المجتمع على النهوض واصلاح مشكلاته بعيدا عن عقدة الكراهية التي يصاب بها جل المجتمعات الدينية في مختلف بقاع الأرض. في الختام: كانت هذه ابرز المحاور الهامة في خلال قراءتي للكتاب, ولا يسعني سوى التأكيد على ضرورة تناول مثل هذه الموضوعات التي تتصل بعنصر هام من عناصر بناء الثقافة الدينية للمجتمع, والسعي الى ردم الهوة بين المبادئ التي ينبغي أن تحملها الخطابة الحسينية كرسالة الى المجتمع, وبين واقع التطبيق الذي يتجلى في سلوك الفرد والمجتمع, ومحاولة تحقيق نسبة مقبولة من التطابق بين المبدأ والواقع, وأشد على يدي الكاتب فيما تفصل به من جهد سائلا الله تعالى أن يوفقه لما هو خير وصلاح للأمة, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.